دول "طالبانيّة" الفكر!
أعتزُّ بأنني تخرجتُ في مرحلتي الثانوية من مدرسة "دار الحنان" الخاصة التي أسستها سمو الأميرة "عفّت" زوجة الملك فيصل. ما زلتُ أردد أن هذه المرأة سبقت زمانها من خلال حرصها ذلك الوقت على إنشاء مدرسة حديثة لم يكن لها منافس في السعودية. كانت بجانب استقطابها هيئة تدريسيّة عالية المستوى، تتخللها نشاطات كثيرة كالرقص والموسيقى والتمثيل والكشافة والإذاعة، إضافة إلى تخصيص حصص أسبوعيّة للطالبات لممارسة أنواع مختلفة من الرياضة.
في نهاية كل عام، كانت إدارة المدرسة تُقيم حفلة سنويّة لخريجات الثانوية العامة، تتخللها أغانٍ تراثيّة ورقص خليجي على إيقاعات موسيقيّة. كنتُ حينها أهوى نشاطات كثيرة أقربها لقلبي نشاط المكتبة، حيثُ كنتُ أعشق عالم الكتب منذ نعومة أظافري. وكانت مكتبة "دار الحنان" تضمُّ آلافاً من الكتب الثقافيّة المتنوعة معترفة على الدوام أنها كانت من أهم الروافد التي أصقلت موهبتي الكتابيّة.
اليوم وأنا أسمع وأقرأ عن الجدل الدائر في الأوساط الدينية حول حُرمانيّة هذه النشاطات، أترحّم على زماني الجميل الذي كانت أفضيته تتسم بالاعتدال والتسامح، مقارنة بما يحصل اليوم من تطرّف ديني ونظرة ضيقة الأفق لكافة مجريات الحياة اليوميّة للناس.
لم يعد هذا التحوّل السلبي مقتصراً على بلادي! فإذا كنتَ إنسانا سويّا، لا بد أن تتلفّت يميناً ويساراً، وترفع حاجبيك عجبا عمّا يجري في أوطاننا العربية من عجائب لا تمتُّ بصلة لعجائب الدنيا التي أقرّتها منظمة اليونسكو للثقافة والفنون. وإذا كنتَ من الأفراد الذي يتمتعون بنظرة ثاقبة وعقلانيّة للأمور، لا بد أن تسأل رفيقك بنبرة حزينة ممزوجة بالحسرة عن الأسباب التي أدّت إلى تغيرّ المناخ الثقافي والديني في مجتمعاتنا العربية!
العراق الذي يملك إرثاً حضاريّاً عظيماً لم يسلم من هذه الموجة السائدة! وما يجري على أرضه يُثير الكثير من التساؤلات، ليس بسبب حوادث العنف الدموي، واستشراء العنصرية الطائفية، وإنما بسبب الردّة الفكرية والثقافيّة التي سيطرت على واقع الحياة السياسيّة والاجتماعية داخل العراق.
مؤخرا قررت وزارتا التربية والتعليم العراقيّة، حذف مادتي الموسيقى والمسرح وإيقاف تدريسهما بمعهد الفنون الجميلة. وقامت كذلك برفع النصب التذكاريّة من واجهة المعهد، مما جعل منظمات المجتمع المدني العراقي تتوجّس من أن هناك خطة تُحاك في الخفاء للنيل من الحريات العامة التي يقرها دستور البلاد.
بالفعل الأمر لم يقف عند هذا الحد! بل عارضت بشدة بعض الأحزاب الإسلامية إقامة مهرجان بابل الدولي، وسعت إلى إغلاق كافة الأندية الثقافية والملاهي الليلية ودور السينما، وهو ما دفع المثقفين العراقيين إلى الخروج في تظاهرة تُندد بما يجري، حاملين لوحات كُتب عليها "بغداد ليست قندهار!".
هل العراق في طريقها لأن تُصبح دولة "طالبانيّة" كما يشيع البعض؟! هل سيطال الحظر أقساماً أخرى مثل الإخراج والتصوير والنحت بداعي التحريم الشرعي، كما يتساءل متخوّفا البعض الآخر؟!
صديقتي الشاعرة العراقيّة "بلقيس حسن" في مقالها "الهمجيّة وقتل الجمال" علّقت على ما يجري في وطنها من قتل وتدمير لمظاهر الحضارة الإنسانيّة الممتدة للآلاف السنين، بأنه عمل أقل ما يُطلق عليه هو كلمة همجيّة!
من حق صديقتي أن تتألم على ما يجري من هتك عرض لحضارة أجدادها! ولكن أليس من واجبنا جميعا كمثقفات ومثقفين أن نتحد ونُطالب بحماية إرثنا الإنساني من التدمير، كي تشبَّ أجيالنا القادمة وهي صانعة للحضارة وليس فقط وريثة شرعيّة لها تُبيح لنفسها العبث بها وتشويه سمعتها أمام الملأ دون أن تشعر بوخز الضمير؟!