وسقطت أوراق التنوير!
غيّب الموت في الأسابيع الأخيرة أسماء فكريّة سامقة في عالمنا العربي. رحل المفكر نصر حامد أبو زيد ثم لحقه الشاعر غازي القصيبي وتبعهما المفكر محمد أركون. ثلاثتهم أثاروا الزوابع من حولهم، وحرّكوا العواصف، وسبقوا عصرهم بطروحاتهم الجريئة، وحملوا مشاعل التنوير من أجل غد مشرق لمجتمعاتهم. وسواء اختلف أحدهم مع فكرهم إلا أن هذا لا يُقلل من شأن أيٍّ منهم.
جميعهم بلا استثناء أحزنني رحيلهم رغم أنني لم ألتقِ بأيٍ منهم في حياته، لكن ما خلّفوه من إرث ثري يجعلنا بالتأكيد ننحني إكباراً لهم. وقد كان موت الدكتور نصر حامد أبو زيد أبلغهم أثراً في نفسي. وهذا يرجع لكون هذا الرجل عانى كثيراً في السنوات الأخيرة من حياته، حيث تمَّ توقيفه عن عمله بالجامعة وتكفيره والتفريق بينه وبين زوجته مما أضطّره إلى الرحيل قسرا متجرّعاً مرارة الغربة. وقد ظل أبو زيد حتّى اللحظات الأخيرة من عمره يُدافع عن طروحاته الفكرية، ولم يتراجع يوماً عن مواقفه، وهي من سمات المثقف الحقيقي.
شبّهتُ موت هؤلاء الثلاثة العظام بأوراق التوت التي حينما تسقط تتعرّى أغصانها وتُصبح أكثر عُرضة للرياح الشديدة! فمجتمعاتنا العربية قد أضحت اليوم عارية الجسد تتنازعها أفكار بدائيّة، في وقت عصيب تعيش فيه اغتراباً فكريّاً وسياسيّاً ودينيّاً!
عندما علمتُ بوفاة الشاعر غازي القصيبي رفضت أذنيَّ تصديق الخبر، وتداعت الذكريات في خاطري. أتذكّر عندما صدرت مجموعتي القصصية "نساء عند خط الاستواء"، والتي أثارت حينها الكثير من الزوابع، ونالت من شخصي، أن نصحني البعض باللجوء إلى القصيبي بحكم مكانته السياسيّة والثقافيّة السامقة. كان وقتها سفيرنا في بريطانيا. وبالفعل هاتفته وطلبتُ منه مساندتي لرفع حظر الكتابة عنّي. أجابني بأنه هو نفسه كتبه ممنوعة من التداول داخل السعودية، متابعاً... نصيحتي لك أن تكفّي عن مشاهدة الأفلام المصرية. فهمتُ بأنه كان يعني أنني بالغت في محتوى قصصي وأنها لا تعكس الواقع المعاش!
خذلني موقفه وشعرتُ بالحزن. وفي عام 1997 تُوفيت الليدي ديانا فرثاها القصيبي بقصيدته الشهيرة "شمعة تحترق"، شعرتُ بالغضب يتملّكني من القصيبي، وكتبتُ قصيدة نثرية بعنوان "النساء العربيات"، أرسلتها له عبر الفاكس على مكتبه بلندن، يتضمّن محتواها عتاباً له على تجاهله لما تُعانيه المرأة العربية والسعودية تحديداً من إهدار لحقوقها باسم الدين والأعراف والتقاليد. وأن هناك ملايين من الأزواج يخونون زوجاتهم دون أن يجدّنَ من يقف بجانبهن!
لم أتوّقع ردّاً قاسياً من القصيبي، بل ظننتُ أنه سيتجاهل قصيدتي "ويادار ما دخلك شر"! لكنني فوجئتُ بمقال له في جريدة "الحياة" حينها مكوّن من عدّة فقرات تتضمّن إحداها هجوما على قصيدتي مستهزئاً بأسلوبها، وأن ما كتبته مجرد سجع لا يندرج تحت مسمّى قصيدة. متهماً إياي بالغيرة من ديانا بعبارته "حتّى في الموت لا نخلو من الحسد!". خاتما فقرته بوعد منه إن مت قبله أن يُرثيني بقصيدة عصماء. فرددتُ على اتهامه بقصيدة أخرى بعثتها إليه أيضاً.
مات غازي القصيبي قبلي، وهو ما يعني أنني لن أحظى بقصيدة عظيمة منه في حقّي. وهذه الواقعة ليست سرّية، فقد سبق وأن ذكرتها للمذيع زاهي وهبي حين استضافني منذ عدة سنوات ببرنامجه الشهير "خليك بالبيت". ولم أكتفِ بهذا، بل قمتُ بنشر القصيدتين ضمن ديواني النثري "إيقاعات أنثوية".
رحم الله المفكر الكبير غازي القصيبي، وأقول المفكر لأن الفكر الراقي هو الذي يصنع الأمم المتحضرة. ورحم الله كافة رموزنا الذين نهلنا منهم وكانوا نبراساً لنا في مسيرتنا الإبداعيّة.