عندما يتحدّث التاريخ!
من المعتاد في السنوات الأخيرة بشهر رمضان من كل عام، أن تتنافس القنوات الفضائيّة على عرض مسلسلات يُراهن أغلبية النقّاد على نجاحها في استقطاب أكبر عدد من المشاهدين، مما يُغري إدارة كل قناة إلى دفع ملايين لشرائها، نتيجة تأكدها التام من أن العوائد المالية التي ستعود عليها من ريع الإعلانات عند وقت بث هذه المسلسلات، ستُغطي تكلفة شرائها وتُحقق أرباحا عالية.
من المسلسلات الرمضانيّة التي حرصتُ على متابعتها طوال شهر رمضان، مسلسل "الجماعة"، الذي يتحدّث عن بداية تأسيس جماعة "الأخوان المسلمين" في مصر على يد "البنا". ومسلسل "ملكة في المنفى"، الذي يحكي سيرة الملكة نازلي أم الملك فاروق، الذي سقطت في عهده أسرة محمد علي بعد أن دام حكمها لمصر قرنا ونصف من الزمان.
قامت جماعة "الأخوان المسلمين" بالهجوم على الكاتب وحيد حامد، الذي قام بكتابة العمل، واتهمته بأنه يُريد تشويه صورة "الجماعة" المتمثلة في مؤسسها حسن البنا. وأنه متواطئ مع الحكومة لإسقاط جماعة "الأخوان" في انتخابات مجلس الشعب المقرر بدئها خلال شهرين. وقد أضحكني هذا التبرير المفتعل لأن الجميع يعلم بأن الانتخابات النيابيّة والرئاسيّة في أغلبية بلداننا العربية ليست ناصعة البياض، بل تحكمها معايير كثيرة، وأن أسس الديمقراطيّة الحقيقية لم تزل غائبة عن أوطاننا.
مع انبهاري بأداء الفنانة نادية الجندي، إلا أنها كانت عند مرحلة موت الملك فؤاد كبيرة على الدور، فمن المعروف بأن الملكة نازلي عندما توفي زوجها الملك فؤاد كانت في الأربعينيات من عمرها، ولذا لم تقنع المشاهد في تلك المرحلة، بعكس دورها عند وفاة ابنها فاروق ووفاة ابنتها فتحية، حيث تألقت، وأدّت دورها كأم مفجوعة أداءً أبهر المشاهدين.
ما يؤخذ على المسلسل أيضا الأغلاط التاريخيّة، التي تخللت المسلسل من حيثُ إنكار زواج الملكة نازلي عرفيّاً من رئيس الديوان الملكي حينها أحمد حسنين باشا كما هو معروف تاريخيّاً. كما أغفل المسلسل الزلاّت التي وقعت فيها الملكة بعد وفاة زوجها الملك فؤاد الأول، مما أدّى إلى تدهور العلاقة بينها وبين ابنها الملك فاروق. إضافة إلى أن الملكة الأم هي من شجّعت ابنتها فتحية على الزواج برياض غالي، والذي دفعت الثمن فيه لاحقاً ابنتها، فجاءت نهايتها مأساويّة بعد أن قُتلت على يد زوجها.
التاريخ قاس في أحكامه، وعلى الرغم من أن مسلسل الملكة نازلي حاول تحسين صورتها بإظهارها كامرأة كرهت حياة القصور، إلا أن المسلسل لم ينجح من وجهة نظري في محو الصورة النمطيّة التي يحملها الناس في أذهانهم عن الملكة نازلي المتعطّشة للحياة الباذخة والسهرات الصاخبة.
ما يربط بين مسلسلي "الملكة نازلي" ومسلسل "الجماعة"، أن كليهما أظهر أن الملك فاروق كان متحالفاً في وقت من الأوقات مع جماعة "الأخوان المسلمين". كما يُظهر من جانب آخر بأن الملكية في مصر لم تكن ديكتاتوريّة، وهذا واضح من الدور المهم الذي لعبته الملكة نازلي من أجل أن يعتلي ولدها العرش كونه لم يبلغ حينها سن الرشد، بدفعها الأزهر إلى اعتماد سن ولدها بالتاريخ الهجري. كما يُبيّن من جانب ثالث كيف كانت الأحزاب تتمتّع باستقلالية تامة، وعلى الأخص حزب "الوفد" القوي الذي كان يُحاسب الملك ويُناقشه عند إصداره أي قرارات ملكيّة، مما يؤكد بأن الحكم في مصر كان دستوريّاً، فما الذي يجري اليوم في مصر لتتراجع الحريات ويتضاءل دور الأحزاب وتتلاشى سمات الديمقراطيّة بعد أن نالت مصر استقلالها وأضحت دولة جمهورية؟!