حدث في اليابان
اشتكت حفيدة إمبراطور اليابان ذات الثمانية أعوام بألم في المعدة مما أضطرها إلى التغيّب عن مدرستها عدّة أيام. وقد كشفت التحقيقات التي أجراها القصر الإمبراطوري أن حالة الأميرة المفاجئة يعود إلى فزعها من زميل لها مرّ من أمامها بسرعة مُفاجئة. إضافة إلى تعرّضها لبعض المضايقات من "تلاميذ مستأسدين" كما أُطلقت عليهم إدارة المدرسة!
أضحكتني الكلمة، بسبب تزايد أعداد الأطفال المستأسدين والمستأسدات في مجتمعاتنا العربية! ومن يُطالع الصحف اليوميّة العربية، سيُصاب بحالة من الهلع لكثرة حوادث العنف التي تقع في مدارسنا وفي جامعاتنا أيضا! فماذا كان سيحصل للأميرة اليابانيّة لو قررت أن تتعلّم في واحدة من مدارسنا؟! بالتأكيد كانت ستُصاب بانهيار عصبي حاد يُستعصى علاجه، وستعزف عن الذهاب نهائيّاً للمدرسة مُفضلة تلقّي تعليمها في البيت. مترحمة على مدرستها اليابانيّة التي لم تعرف قدرها. مُرددة المثل الحجازي الشائع عندنا "بكره تشوف يا ناكر خيري، زماني من زمن غيري".
نحن متمرسون في استخدام العنف. يشبُّ الطفل على مشاهدة أشكاله في كل مكان حتّى يتطبّع به. في البيت يرى أباه يُمارس العنف على أمه، فيقوم بتقليد أباه وممارسة سلطته الذكوريّة على أخواته البنات. وحين يهمُّ بدخول المدرسة يٌلقنه أباه بأن يكون رجلًا قويّاً، وأن يردّ الصاع صاعين لمن يتعرّض له.
أتذكّر صديقة لي عاشت فترة في أميركا. عادت واستقرّت في بلدها. كان أطفالها يتقنون اللغة الانجليزية، ويتحدثون بأدب جم. لا يُتابعون مسلسلات العنف التي تزخر بها قنواتنا التليفزيونيّة. نشاطاتهم محصورة بين الجلوس أمام شاشة الكومبيوتر أو اللعب في واحدة من صالات الألعاب.
حدّثتني صديقتي وقتذاك عن مخاوفها من أن يتحوّل أطفالها مع مرور الوقت إلى النقيض بدخولهم المدرسة. طمأنتها بأن البيت يُشكّل عاملاً أساسيّاً في تنشئة الطفل تنشئة سليمة. رأيها كان مُخالفاً لرأيي حيث كانت ترى بأن المناخ السائد مُخيف! وأن البيت جزء من منظومة اجتماعية حلقاتها مرتبطة ببعضها، متابعة... كيف يمكن أن أربي أطفالي على نبذ العنف بأنواعه، والتحلّي بروح التسامح، واحترام أقرانهم، والبيئة المحيطة بهم لا تُوفّر لهم الجو الملائم لكل هذا؟!
بعد مرور عدة سنوات على عودة صديقتي بأبنائها إلى السعودية، أقرُّ بأنها كانت على صواب. فأبناؤها اكتسبوا عادات لم يألفوها هناك. وعندما أبديتُ أسفي لذلك، أجابتني بأن التيار كان أعلى من أن تواجهه بمفردها!
كثيرة هي البرامج التليفزيونيّة، والمقالات الصحفيّة التي تُمجّد التجربة اليابانية، وتُطالب بتطبيقها في مجتمعاتنا العربية. لكن القضية ليست في أن "واحد زائد واحد يساوي اثنين"! القضية أكبر من هذا بكثير. هي تحتاج إلى تكاتف جهود مشتركة بين المؤسسة التربوية والمؤسسة التعليمية لإخراج أجيال واعية على المدى البعيد. إضافة إلى الإعلام العربي، الذي يتحمّل جزءاً كبيرا من المسؤولية.
بالله عليكم أعطوني بلداً متحضّراً يقوم ببث أفلام عنف أو برامج غير لائقة قبل منتصف الليل حرصاً على سلامة فكر النشء الجديدة! في بلداننا العربية يحدث العكس، حيث لا نحرص على عرض ما هو ملائم لأطفالنا في أوقات معينة، ليفتحوا عيونهم على ما لا يجوز أن يعرفوه في سنّهم المبكرة.
المثير للسخرية أننا طوال الوقت نتهم الغرب بأنه يُصدّر لنا ما هو غير لائق. وأن مجتمعاته ليست لديها منظومة أخلاقيّة! والحقيقة أنهم أكثر حرصاً على تنشئة أجيال واعية لإدارة دفة الغد. النظر بوعي إلى ما وراء الأكمة لحماية فكر النشء القادم، هو الذي سيُحدث تغييراً جذريّاً في أرضنا.