التاريخ يُعيد نفسه
كان قاسم أمين أول من فجّر قضية المرأة في مصر، من خلال كتابه "تحرير المرأة" الذي صدر بمستهل القرن التاسع عشر، مُعقباً إياه بكتابه "المرأة الجديدة". وقد حرّك كتابه الأول لغطاً كبيراً في الشارع المصري. وثار عليه المحافظون بسبب طروحاته الجريئة وأفكاره التقدميّة التي تضمنها كتابه.
طالب "أمين" وقتها بوجوب إتاحة الفرصة كاملة أمام الفتاة كي تُكمل تعليمها، حيث كانت تتوقّف دراستها بنهاية المرحلة الابتدائيّة. كما حثَّ المرأة على خلع "اليشمك" التركي المعروف في عصرنا الحالي بالنقاب! ودعا المرأة للخروج من عزلتها والانخراط في شؤون الحياة العامة سواسيّة بالرجل.
من المعروف أن قاسم أمين كان قاضيّاً، ويُعتبر زعيم الحركة النسائيّة في مصر، وتتلّمذ على يد الإمام المتنوّر محمد عبده، وكان مترجمه الخاص في فرنسا. وقد تأثر "أمين" كثيراً بالمفكرين الفرنسيين إبان إقامته في فرنسا، وكان من أوائل المؤيدين للإمام محمد عبده في حركة الإصلاح التي نادى بها بعد عودته.
قرأتُ في سيرة "أمين"، أن مظاهرات ساخطة قامت ضده بعد نشر كتابه، وهو ما دفع بعض المحتجين إلى الذهاب لبيته ومطالبته السماح لهم بالجلوس مع زوجته وابنتيه ما دام يؤيّد السفور ويُبيح الاختلاط.
مَنْ يزُر مصر هذه الأيام، يجد أن ظاهرة النقاب قد عادت إلى الواجهة بقوة مع ارتفاع نبرة التطرف الديني، التي شاعت في بعض مجتمعاتنا بالعقود الأخيرة! وبروز دعاة متطرفين على مسرح الحياة العامة، بسبب تبنّي شريحة كبرى في المجتمع لأفكارهم! ومن يعرف مصر في عصر التنوير يستطيع أن يلمس الفرق الشاسع بين ما كانت عليه، وما آلت إليه اليوم الحياة الاجتماعية من تراجع ملحوظ!
استرجعتُ الواقعة التي حدثت لقاسم أمين، وأنا أقرأ خبر اعتقال مجموعة من المتطرفين، حاولوا اقتحام منزل مدير "هيئة الأمر بالمعروف" بمكة الشيخ أحمد بن قاسم الغامدي، مُطالبين إياه بتمكينهم من الاختلاط بنساء أسرته بالقوة.
توقّعت بعض المواقع على الإنترنت أن تتم مُحاكمة المتهمين بتهمة "الحرابة" التي تصل عقوبتها إلى حد القتل، لأنهم يُعتبروا في نظر الشرع من المفسدين في الأرض! وحقيقة شعرتُ بالراحة لأن الجهات الأمنية قامت بإطلاق سراحهم بعد استجوابهم، وأخذ تعهد عليهم بعدم التعرّض للغامدي وأسرته.
أؤمن أن الأفكار المتطرفة لا تموت بموت أصحابها! وإنما بنشر الوعي الصحيح، وجز الفكر المتشدد من جذوره حتّى لا يستشري بين أفراد المجتمع. والشيخ الغامدي لم يأتِ بجديد، وما نادى به موثّق في تاريخنا الإسلامي، ولكن يكمن تميّز الغامدي من كونه أول من أفتى بمشروعيّة الاختلاط في بلد أغلبية شيوخه متزمتي الرؤية، يتفقون على وجوب سجن المرأة في قلعة الرجل باسم الوصاية! ويُنادون جهاراً بحتميّة تبعيّة المرأة للرجل، وعزلها عن الحياة العامة، حرصاً على كرامة وهمية ابتدعتها عقولهم المتحجّرة!
كل المفكرين والدعاة المتنورين الذين سبقوا عصرهم بطروحاتهم الجريئة دفعوا أثماناً فادحة. والسؤال الذي يظلُّ عالقاً إلى متى ستظل مجتمعاتنا تنساق بلا إدراك خلف دعاة يريدون لمجتمعاتهم أن تتقبّل صاغرة العيش في عصور الظلام؟!
لقد آن الأوان أن تقوم مؤسساتنا التربوية والتعليمية والثقافية، بحملات قوية للتصدّي لكل فكر مُعاق يصر على تكفير كل صاحب فكر مستنير يُحاول الخروج عن معتقدات عقيمة!
إن الترويج للفكر العقلاني، وتعزيز مبادئ الحوار بين كافة التوجهات الفكرية، وغربلة مناهجنا من الأفكار الهدّامة، واحترام ما يفرزه العقل البشري المتنوّر، سيخلق أجيالًا واعية على المدى البعيد. أجيال تستطيع التصدّي لكل من يُحاول إرجاعها للعصر الحجري!
الاتحاد الاماراتية 02 مايو 2010