الخبير الأمريكي دارولد تريفيرت يكشف لـ"عربيات" أسرار العبقرية
هل يمكن لإنسان عادٍ أن يصبح عبقريا؟ هل صحيح أن العرب لم ينجبوا على غرار غيرهم من الأمم عباقرة عظام تفتخر بهم الإنسانية؟ ما هو سر ظاهرة الحوادث التي يتحول بعدها أشخاص بسطاء إلى نوابغ وأصحاب مواهب استثنائية؟ وكيف نفسر ظاهرة مرضى التوحد الذين يعانون من تخلف عقلي ورغم ذلك يستطيعون القيام بحل معادلات رياضية في غاية التعقيد والصعوبة؟
أسئلة محيرة
تلك الأسئلة جملة من الأسئلة المحيرة التي ظلت لعدد من السنين محل أخذ ورد من طرف العلماء والباحثين الذين رغم تعمقهم في دراسة هذه الظاهرة الإنسانية المحيرة، إلا أن هناك نقاطا عمياء لا تزال حتى الآن تبقى غير جلية المعالم، وهي بالتالي بحاجة إلى التعمق فيها أكثر بقصد معرفة جوهرها وطبيعتها المكنونة. وضمن هذا المجال حاولنا في عربيات استطلاع آراء مختص في هذا الموضوع الشائك والغامض وهو البروفيسور الأمريكي دارولد تريفيرت Darold Treffert أستاذ الطب النفسي في جامعة وسكنسون والذي قضى قرابة 50 عاما في ميدان البحث حول ما يسميه بـ"متلازمة العباقرة" وهو مؤلف الكتاب الشهير "جزر العبقرية Islands of Genius". والبروفيسور دارولد تريفيرت من أبرز المشاركين في استديوهات القنوات الأمريكية المعروفة، كما أنه وراء إعداد فيلم "رجل المطر" الذي أدى بطولته النجمان داستين هوفمان وتوم كروز ونال أربع جوائز أوسكار عام 1988م.
عقاقير العبقرية
وفي البداية لنتساءل حول طبيعة بعض العقاقير التي يزعم حاليا كثيرون بأنها تساهم في تطوير الذكاء وتقوية الذاكرة، هل هي بالفعل كذلك؟ أم أنها ليست سوى خدع تجارية تضر بالمستهلك أكثر مما تنفعه؟ وقد سألنا البروفيسور دارولد تريفيرت حول هذه المسألة، فأجاب قائلاً: "هناك بالفعل عقاقير يمكنها تنشيط وتقوية الذاكرة مؤقتا ومنها المنبهات المعروفة ذات الجرعات المحدودة على غرار الكافيين مثلا، ودون ذلك غير صحيح". لكن ضمن هذا السياق نلاحظ أنه كثيرا ما يتردد الحديث عن العبقرية و كأنها قوة ميتافيزيقية عصية عن الفهم و التحليل إلا أن البروفيسور دارولد تريفيرت له رأي آخر، حيث يقول: "ليس هناك أي بعد ميتافيزيقي بشأن العبقرية، فالذكاء والإبداع لدى البشر نجدهما على شكل جرس، هناك أشخاص لديهم الحد الأدنى منهما لأسباب متعددة منها وراثية، أو نتيجة حادثة، أو نقص التعليم.. إلخ لكن الغالبية منا يصنفون في الوسط، فيما يصنف العباقرة والنوابغ في الجهة الأخرى كحالات استثنائية، وجميع هذه الحالات تخضع لنشاط المخ الذي نحاول كباحثين معرفة كيف يعمل، بسبر ديناميكيته، تشعب اتصالاته، كيميائيته، فهو جهاز بالفعل معقد جدا لكنه غير ميتافيزيقي، وفي الحقيقة نحن بحاجة فقط إلى إمكانيات أفضل وفي الوقت الراهن مازلنا نتعامل مع المخ من خلال التصوير الوظيفي ومن أكبر العوائق في هذا المجال أن المخ ليس كغيره من الأعضاء الأخرى مثل القلب والكبد، فهو يوجد بداخل جمجمة يصعب اختراقها، ما يدفع إلى الاعتماد على التصوير في الوقت الراهن، وعليه فإن معرفة أسرار عمل المخ يظل رهينة إمكانياتنا المحدودة فحسب".
سر العبقرية المكتسبة
ويعتقد البروفيسور تريفيرت أن هناك حوادث تصيب بعض الأشخاص على مستوى المخ، مما تجعل منهم أصحاب مواهب خارقة للعادة ، وهذا ما يطلق عليه علميا مصطلح " متلازمة العباقرة Savant syndrome" فهل هذه الظاهرة تقتصر على الغرب فقط أم يمكن أن تتكرر في عالمنا العربي أيضا؟ ولمعرفة الجواب طرحنا السؤال على البروفيسور تريفيرت، الذي أجاب: "أنا أشك في كون ظاهرة متلازمة العباقرة لا تقع في العالم العربي أو في ثقافات أخرى لكن هذه الحالات قد لا تجلب الانتباه، كما هو الحال في الغرب، ولأن كتابي "جزر العبقرية" قد ترجم إلى العربية، فقد يكون له الفضل في تعريفي بمثل هذه الحالات العربية حتى ولو كانت اللغة عائقا في التعريف بهذه الحالات ضمن الأدبيات العلمية، وتعتبر متلازمة العباقرة عبارة عن مرض نادر يصيب بعض الأشخاص فجأة على إثر إصابة في الدماغ من الجانب الأيسر مما يحرر لديهم قدرات خارقة كانت كامنة في مناطق مجهولة في الدماغ، وفي اعتقادي أنه لدينا جميعا هذه القدرات الخارقة الكامنة". لكن السؤال الذي يفرض نفسه في هذا السياق لماذا لا يزال العلم غير قادر على تحديد موضع القدرات الكامنة في المخ رغم دراسة العديد من الحالات المتعلقة بمتلازمة العباقرة؟ حول هذا السؤال يجيبنا البروفيسور تريفيرت بالقول: "إن الذكاء والإبداع والذاكرة ليس لها مكان محدد ومعين في المخ، على اعتبار أنها تخضع لعمل معقد تشترك فيه عدة مناطق مجتمعة في المخ، كما يجدر الذكر أنه لا يوجد ذكاء واحد بل عدة أنواع من الذكاء، لقد حاولت شرح ذلك بتوسع في كتابي "جزر العبقرية" والذي كما قلت لك ترجم إلى العربية وقد يكون وراء اتصالك بي حول هذا الموضوع، حيث أنا في شوق لمعرفة حالات من متلازمة العباقرة في العالم العربي".
الغربيون يوظفون الشق الأيسر من المخ فقط
والحقيقة أن العقل العربي شأنه شأن العقل الغربي يعمل بنفس الخصائص والقدرات وإن كان البعض يريد زرع الريبة في هذا المجال لدواع عنصرية أو إيديولوجية بحتة، وحول هذا الموضوع طرحنا السؤال على البروفيسور تريفريت وكان رده كما يلي: "إن الولايات المتحدة والبلدان الأنغلوفونية (الناطقة بالإنجليزية) عامة تعمل على توظيف الشق الأيسر من المخ (أي التعامل بالمنطق وامتلاك قدرات لغوية) وهذا له طبعا إيجابياته، لكن توظيف الشق الأيمن من المخ (الموسيقى، الفن، والتفكير التجريدي والتأملي) لم يتم إعطاؤه الأهمية اللازمة أو لم يوظف كفاية، وأريد من خلال كلامي القول بأننا جميعا نملك قدرات عظيمة كامنة، ولأسباب ثقافية محضة نعمل على دعم توجهات معينة على حساب أخرى تظل بعيدة عن الاهتمام لتتوارى في الأعماق، وبناء عليه نحن لسنا عباقرة، مثل موتزارت وآينشتاين في حالة كمون، لكننا جميعا نملك قدرات نائمة و"متلازمة العباقرة" تؤكد ذلك،هناك عدة عوامل جعلت من أشخاص معينين عباقرة بعضها وراثي محض، ولأننا لسنا مؤهلين لكي نجعل الجميع عباقرة لكن بالجهد والتربية يمكن للكثير منا الرفع من مستوى ذكائه وإبداعه".
لكن هذا التحليل قد يبدو لنا متناقضا مع مقولة المخترع الأمريكي الشهير توماس إديسون الذي أكد بأن العبقرية هي واحد في المائة موهبة و99 في المائة الباقية جهد، وحول ذلك يجيبنا البروفيسور تريفيرت بالقول: "إن العبقري الحقيقي يملك قاعدة وراثية وقدرات فطرية، صحيح أن اكتساب الموهبة قد يخضع لبذل جهد كبير لكن العبقرية لا تخضع للجهد فقط، والأمر أكثر تعقيدا من ذلك، وأنا لا أعتقد بأن العبقرية تتكون من 99 في المائة جهد، هناك في تصوري استعدادات طبيعية تخضع بالطبع لعمل كبير كي تبرز ولدينا جميعا هذه الاستعدادات الكامنة ويبقى فقط العمل هو الجانب الذي يحسم النتيجة".