الدكتورة ملحة عبدالله عميدة المسرح السعودي لـ"عربيات": ابن الجزيرة أصل العالم، وفعالياتنا الثقافية محصلتها "صفر"
مكوناتها الإنسانية الخالصة شكّلتها معاناتها المبكرة وسجالاتها البريئة من أجل إثبات الجدارة وتحقيق الذات. وثقافتها الثرية، ما هي إلا نتاج رحلة ممتدة العطاء بين أجناس الثقافة والفكر والأدب. أما وجدانها فهو ريفي قروي، محلّق في آفاق "أبها" و"آل حديلة" حيث إنطلاقاتها الأولى في ربوع البادية وأحضان القبيلة. روحها العربية الوثابة، وشخصيتها البدوية الواعية، كفلا لها تميزاً شديد التنوع والثراء، ومنحاها سجلاً فريداً في تاريخ المرأة السعودية والعربية؛ فهي أول امرأة بالمملكة تحصل على رسالتي الماجستير والدكتوراة من الولايات المتحدة الأمريكية في دراسة "الدراما والنقد" بالإضافة لدراسات أخرى مكملة في بريطانيا، وقد حققت في هذين المجالين جهداً بالغ الإنجاز والإبداع وصل إلى خمسة وخمسين نصاً مسرحياً، وأكثر من عشرين كتاباً نقدياً، وهو ما جعلها في مصاف المكرّمات دوماً على المستوى العربي، وعلى المستوى العالمي أيضاً بعد أن حصلت على جائزة اليونسكو عن مسرحيتها "العازفة"، فاستحقت بجدارة أن تلقب بـ "عميدة المسرح السعودي"، هذا بالإضافة إلى تميزها الكبير في تبني قضايا الدفاع عن التاريخ العربي وحضارته، وعن المرأة العربية وتاريخها. وهي المرأة العربية الوحيدة تقريباً التي يكرّمها الأزهر الشريف في مصر على نتاجها المسرحي المتزن.. إنها الدكتورة "ملحة عبداللة "، والتي التقت بها "عربيات" في القاهرة، وأجرت معها هذا الحوار.
أخشى على القرية السعودية من الوافد، وشعوري بالاغتراب قدري وقدر جيلي
وأنت ابنة القرية السعودية في أبها وآل حديلة، مما تخشين على هذه القرية الآن؟
القرية هي عطر الزمن وذكرى المكان، والفطرة النقية الطاهرة التي لا تعرف للتكلف نهجاً ولا سبيلاً، وتلك الملامح التي شكّلت وجداننا وصاغت عالمنا منذ أن كنّا صغاراً وحتى شببنا عن الطوق، أخشى أن تتلاشى ويذبل عبقها الزماني والمكاني بفعل المدنية الوافدة والمعمارية المستوردة، فنفقد أعز ما نملك من هوية الريف وفولكلور القرية وثقافة الأصل والتاريخ والحضارة.
"مريم" المدرّسة الفلسطينية في حياتك هل تذكرك بمشكلة ما في البيئة الأسرية بالمملكة؟
نحن في المملكة تربينا على تكوين علاقات مودة مع كل مدرسينا ومدرساتنا، وهي علاقات دائماً ما تمتد لسنوات طويلة، ومريم مثّلت لي أماً ثانية في بدايات تكويني المبكر، وفي رأيي أن جيل الأطفال الصغار في حاجة ماسة لاحتواء مماثل داخل الأسرة السعودية والعربية، وفي الحقيقة أنا حزينة على الطفل العربي، لما يواجهه من تغريب وإهمال؛ فإذا كان طفلاً ذا عائلة ميسورة فهو متروك للخادمة، وإذا كان عكس ذلك فهو متروك للشارع، وهذا كله مرده لأنانية الأبوين، تلك التي يجب التخلي عنها من أجل التفرغ لتربية أبنائنا واحتوائهم.
تعتبرين الزواج المبكر عائقاً في حياة الفتاة السعودية؟
طبعاً بالتأكيد؛ فالطفولة لها حقوق واجبة النفاذ، ومن واجب الأسرة أن تقف حائلاً دون إنتهاك أهلية الطفولة وحقوقها، والزواج المبكر، يفقد الفتاة مكوناتها الطبيعية ومميزاتها الشخصية بفعل الحرمان القسري من استكمال طفولتها، و يؤثر سلباً في تكوينها العقلي والفكري والوجداني، وهذه الظاهرة أصبحت قليلة جداً الآن في المملكة لتغير الزمن والثقافة.
أنت وجيلك تمثلون همزة الوصل بين زمن القبيلة وزمن العولمة، فهل تعانون الاغتراب؟
معاناة الاغتراب قدري أنا وجيلي؛ لأننا عانقنا حياة القبيلة في الماضي بكل مظاهرها وتقاليدها، وعبر فترة زمنية قليلة إذا بنا فجأة في مواجهة العالم المتقدم بكل أبعاده وتقنياته، دون خوض مرحلة الاحتكاك الناضج بالآخر المختلف ، ومن ثم فنحن جسر العبور الآن لمن يرغب في تلمس الماضي وتحسسه عن قرب، بينما يبقى هذا الماضي ماثلاً في تكويننا الوجداني والديني عندما نتماس مع الحاضر المتقدم بمفاهيمه المختلفة والمتباينة بل والمتضادة بالكلية أحياناً مع مكوناتنا الماضوية، وهذا هو عين الشعور بالغربة.
العربي مسكون بحب النار والماء
اعتبرت أن ابن الجزيرة العربية هو أصل العالم، ما حجم موضوعية هذا الاستدلال؟
لستُ نسّابة، ولم يكن متعمداً في دراستي "الجزيرة العربية أنساب وتقاليد" أن أصل إلى هذه الحقيقة، لكنني فوجئت بها حاضرة بقوة في ثنايا علم الأنساب، وعبر العديد من المخطوطات الموغلة في القدم وكذلك الأحجار المحفورة باللغات العربية الجنوبية ومثلها المحفوظة في "متحف ليدن" بانجلترا، وكيف أن آدم الذي كانت لغته في الجنة هي العربية قبل أن يتكلم السريانية، كان مقامه ودفنه في جزيرة العرب، وكيف أن نوح وذريته من أبناء آدم انتشروا في كل بقاع الأرض وشكلوا نسيجها البشري، ولقد كانت خلاصة هذه الدراسة إحساساً عميقاً بشراكة الأصل والدم والنسب مع كل البشر، خاصة مع من يشاركونني اللغة والعقيدة والتاريخ. أما الإعتراض على هذا الاستدلال فلا محل له من الإعراب؛ لأنها ليست مباراة في إثبات النسب بقدر ما هي حقيقة مرتكزة إلى أسس موضوعية غاية في الحياد والتوثيق.
بعد هذه الدراسة، ما الذي وجدته متجذراً في الشخصية السعودية؟
ما وجدته أمران أو صفتان، ليستا في الشخصية السعودية فحسب بل في الشخصية العربية ككل، وهي حب النار وحب المطر؛ فالعربي حياته ومكوناته مرهونان بهذين الشيئين؛ وهي تبع لهما، فهو ثائر كالنار مسالم كالماء، وشخصيته جامعة للضدين معاً بشكل متفرد عجيب. ومهما قاربه التحضر وغازلته المدنية، فإنه يظل متشبثاً بجذوره الأولى مسكوناً بمكوناته الخاصة.
الغرب استلهم نظرياته من علمائنا وصدرها إلينا
انتصارك في موسوعة "نقد النقد" للنظريات العربية واعتبارك إياها منبع النظريات العالمية وأساسها ، هل هو من باب التمسك بالأمل العربي؟ أم من باب تذكير الآخر غير العربي؟
لا هذا ولا ذاك، إنما هو إحياء وتجسيد وبعث لإرث علمي وحضاري وتاريخي أهملناه بفعل استسلامنا لمعطيات الطرح المغلوط لنظريات وفلسفات وآراء المستشرقين في مجال النقد المسرحي والشعري وغيره، وفي الحقيقة أنا لا أتهم أحداً بسرقة نظرياتنا، إنما باختصار أقول إن الغربيين استلهموا من نظريات الفارابي وابن رشد والكندي وابن سينا وابن خلدون وغيرهم ما يناسب طينتهم ومجتمعاتهم وثقافاتهم وسلوكياتهم، ثم هم يصدّرونها إلينا باعتبارها أصولاً نقدية مبتكرة ونظريات فكرية جديدة غاية في الحداثة، ومن ثم نصدقها نحن في "بلاهة" وبلا وعي، فنقع في محاذير التغريب وضياع الهوية والتاريخ والتبعية العمياء.. ويجد الناقد نفسه غريباً هائماً على وجهه لا يشعر سوى بالاغتراب عن أصوله النقدية العربية.. في "نقد النقد" واجهت بالحقائق طروحات "توماس فريدمان" المسيئة للثقافة العربية وتاريخها في كتابه "العالم مسطح"، وأقررت نظرية واقعية مفادها أن الإنصهار الفكري والثقافي في بوتقة النظام العالمي الجديد والاستسلام لسياسة "الحقن تحت الجلد" كفيلان بالقضاء على الشخصية العربية أو على الأقل إرباكها.
وما الذي ميّز النظريات العربية تحديداً؟
الذي ميّزها هو سبقها وتقدمها؛ وقد شهد جنوب الجزيرة العربية بدايات أصيلة لخطاب نقدي ناضج واضح المعالم، وباستنطاق الموروث النقدي العربي، وجدت أن أغلب النظريات الغربية ترتكز على الإرث الفلسفي الإسلامي والعربي فالفارابي سبق "غولدمان" في فكرة الوصول إلى الجوهر، وسبق نظرية الـ "هنا" والـ "هناك" لـ"جاك دريدا"، وقد تضمنت كتابات الجاحظ وابن سينا ومسكويه والفارابي وابن رشد الكثير مما يتشدق به الغربيون من نظريات بما فيها نظرية الحداثة ونظريات البنيوية والتفكيكية التحليلية.
المسرح السعودي مسرح هواة، واحترافه يحتاج لمؤسسة ترعاه
ما الدليل على أن المسرح في المملكة قديم قدم المسرح في الوطن العربي؟
المسرح كظاهرة قديم في منطقة الخليج ولعل البعض لا يعرف أن اليمن كان لها السبق العربي عندما ظهر المسرح البريطاني على أراضيها خلال القرن السابع عشر، أما المملكة فقد كان عهدها بالمسرح قريباً جداً من عهد المصريين به، وذلك خلال الثلاثينيات؛ فكان هناك المسرح المدرسي، ثم "دار قريش" للتمثيل في مكة بإشراف أحمد السباعي، وقد واجهت تلك المحاولات المبكرة بتحفظات اجتماعية شديدة في ذلك الوقت، إلى أن حلّ المسرح الكلاسيكي بقيادة حسين سراج وجيله؛ حيث عُرضت مسرحيات مثل "الدوامة" و "للسعد وعد" وغيرهما، ثم مسرح إبراهيم الحمدان خلال فترة السبعينيات حيث تم تقديم أول العروض المسرحية الرسمية تحت عنوان "طبيب بالمشعاب" عن نص "طبيب رغم أنفه" لموليير، وتستمر المسيرة، والحقيقة لا يزال المسرح السعودي رغم كل ذلك مسرحاً للهواة ولم يبلغ مرحلة الاحتراف المؤسسي بعد.
يعد ميزة أم عيباً كونك المرأة السعودية الوحيدة المتخصصة في الدراما والنقد؟
هذا يُسأل فيه غيري، ولكن يوجد الآن في المملكة أكثر من عشر سيدات يحملن درجة الدكتوراة في الأدب المسرحي، ورغم أنني أخشى أن يتهمني القاريء بالشيفونية، إلا أنني مضطرة إلى القول بأنهن متميزات فقط على مستوى الأدب المسرحي وليس المسرح، وفرق كبير بين الكتابة المسرحية، والخبرة العملية والإبداعية بمتطلبات العمل المسرحي؛ لأن النص المسرحي هو مجرد مشروع للمسرح، أما تحويل هذا النص لواقع مسرحي منطوق ومسموع ومرئي بشكل متكامل، فهذه هي الخبرة الحقيقية التي تحتاج الكثير من الجهد والتفاعل.
النظرة المتدنية للمسرح نشأت بسبب الخلط بينه وبين الملهى
واجهت مبكراً النظرة التي تصنف المسرح ضمن الفنون اللاأخلاقية، هل لازالت تلك النظرة قائمة إلى الآن في المملكة؟
بالطبع لا، فتلك كانت نظرة قديمة مرتبطة بأسبابها المنطقية، ومتأثرة بما كان يحدث في مصر وسوريا ولبنان حيث كانت الملاهي والنوادي الليلية والمراقص في شارع الهرم تسمى مسارح، ومن ثم ارتبط اسم المسرح ـ على سبيل الخطأ ـ بأعمال الرقص و"التنطيط"، وقد كان لى حديث مع الدكتور أشرف زكي حينما كان نقيباً للممثلين بمصر، حيث طالبته بعدم إطلاق اسم المسارح على الملاهي والأندية الليلية، وأكدت له أن ذلك أضر بالمسرح في السعودية كثيراً وأخر من وتيرة نموه وانتعاشه؛ لأنه أعطى صورة منافية للأعراف والعادات والتقاليد المحافظة، وقد وافقني الرأى فيما قلت. والآن الأمر تغير كثيراً في المملكة حيث ينتعش المسرح وينمو بشكل جيد، وخاصة المسرح النسائي الذي يشهد إقبالاً كبيراً ملفتاً للنظر، غير أنه يحتاج لدعم رسمي يصل به إلى آفاق العمل المؤسسي والاحترافي.
اختزال المسرح في الضحك أبعده عن دوره في تحريك الوعي الفردي والجمعي
لكن لماذا يقف المتلقي السعودي عند حدود المشاهدة فقط في مواجهة المسرح؟
هذا ليس على مستوى المسرح السعودي فقط بل في أغلب المسارح العربية، وهو نتيجة تسرب مفهوم خاطيء عن المسرح لدى المتلقي؛ حيث يكرّس البعض للترويج لمفاهيم ضيقة للعمل المسرحي منها مثلاً أنه يقتصر على إضحاك المشاهد، وهو ما عوّد المتلقي على الربط بين المسرح والضحك، فإذا اختفى الإضحاك المسرحي ينصرف المشاهد عن المسرح وينبذه، ورغم أنه لا اعتراض على عنصر الإضحاك في العمل المسرحي، إنما الطامة الكبرى هي اختزال المسرح في هذا الغرض فقط دون غيره من جوانب وأغراض العمل المسرحي الأخرى كتحريك الوعي الفردي والجمعي وإثارة روح النقد والقياس بهدف الحكم على الأشياء بطريقة صحيحة.
البعد الخامس نقطة ضوء
هل كان هذا سبباً من أسباب تفردك بنظرية "البعد الخامس في التلقي والمسرح"؟
نعم بالتأكيد، لأن المسرح العربي لا يحتمل المزيد من عوامل اتساع الفجوة بينه وبين المتلقي، بل هو في حاجة ماسة لتقليص تلك الفجوة؛ فعندما يتم نحت الشخصيات المسرحية نحتاً كاملاً في أعين المتلقي، فإننا بذلك نقطع عليه خط الرجعة فلا يستطيع إعمال خياله الخاص مع النص والعمل المسرحي ككل، وهذا هو لب نظرية البعد الخامس، والتي تعتمد على دمج عقيدة ووجدان المتلقي من خلال العمل المسرحي مع ترك نافذة مفتوحة من مكونات الشخصية المسرحية لخيال المشاهد، وهو ما يتيح له مشاركة وفاعلية أكثر تجاه ما يقدم له على خشبة المسرح. ومن ثم يتمكّن المتلقي من نحت الشخصية بنفسه.
توترت العلاقة بين الناقد والمبدع بسبب الخلط بين مفهوم "النقد" و"الانتقاد"
بين مسرحية "أم الفأس" و "غول المغول" ما الذي تغير في مسرح الكتابة لديك؟
في حقيقة الأمر أنا لا أهتم برصد مثل تلك التغيرات، لا لشيء سوى لأن كل عمل أو نص مسرحي في مسيرتي إنما هو حالة خاصة قائمة بذاتها، وغالباً ما تجد في نصوصي وأعمالي التزاماً تاماً بالمدرسة المسرحية التي أكتب وفق توجهاتها، وهذا ما عوّدت نفسي عليه.
بعد أكثر من خمسين نصاً مسرحياً، إلى أي المدارس المسرحية تميلين أكثر؟
إلى المدرسة الواقعية السحرية، فبعد تأمل عميق لمجمل ما ألفته من نصوص وجدتني مأخوذة بعالم الواقعية السحرية، ذلك الذي تستهويه الموروثات الشعبية والتراثية القديمة المحمّلة بالغرائبيات والأساطير حيث قدرة الخيال على قلب الصورة الواقعية الرتيبة إلى حالة من الدهشة والتجدد والحيوية.
بعد عشرات الكتب النقدية في مسيرتك الإبداعية، ما سر العداء بين الناقد والمبدع في رأيك؟
لأننا في عالمنا العربي درجنا على الخلط الدائم بين "النقد" و "الانتقاد"، وارتبط المفهوم النقدي لدينا بالهجوم على المنجز الإبداعي وفضحه وكشف ما فيه من عيوب، ومن ثم توترت العلاقة بين الناقد والمبدع، خاصة في ظل سطحية النقد ، وتصدر المشهد النقدي من قبل أناس لم يتربوا على النقد الموضوعي القائم على التحليل والتفسير بهدف توصيل الرسالة وليس تصيّد العيوب، ومأساتنا الحقيقية تكمن في تعالي النقاد وتضخيم ذواتهم، وهو ما أدى إلى الفصل بينهم وبين المبدعين والإبداع ككل.
لكن هل من حل لهذه الإشكالية النقدية من وجهة نظرك؟
لابد من التقارب بين الناقد والمبدع، وأن يتوحد الناقد مع شخصية المبدع ومع ما أنجزه من إبداع، وأن يكون مطواعاً للمعيار النقدي الذي يلتزمه بحيث تختفي تدخلاته النقدية الخاصة، والحقيقة أننا في حاجة ماسة لتكوين جيل واع وموضوعي من النقاد، خاصة وأن النقاد المسرحيين في الوطن العربي يعدّون على الأصابع ومنهم فوزي فهمي، ونهاد صليحة، والدكتور محمد عناني، وعددهم جميعاً لا يليق بحجم الوطن العربي الكبير.
معنى هذا أنك غير راضية عن النقد الانطباعي؟
النقد الانطباعي إذا اقتصر على دائرة المتلقي فمشكلته هينة، لكن المؤسف أنه تعدى المتلقي العادي إلى من يتصدرون المشهد النقدي بغير جدارة واستحقاق، ومن ثم ضاعت هيبة النقد وضاع دوره في استكشاف العمل الإبداعي وسبر أغواره، وبذلك نفقد القيمة الإبداعية والنقدية، بل ونفقد المتلقي أيضاً؛ باعتباره ضحية النقد السطحي الذي لا يرعى المتلقي بتبصيره بخفايا الإبداع الذي يشاهده أويقرأه أو يسمعه.
كيف ترين العولمة في إطارها العربي؟ وهل هي تلهث خلف سراب؟
ليست هناك عولمة عربية وأخرى غير عربية، فالعولمة هي العولمة في مفهومها الخاص بتكريس واقع "الإنسان الفرد"، فهذه هي فلسفتها، وأكبر الأسلحة وأقواها في مواجهة العولمة هو "معرفة الذات"؛ فأن تعرف ذاتك العربية بهويتها وتاريخها وحضارتها هو أفضل ما تواجه به الهجمات الشرسة للعولمة والتي تهدف في الأساس إلى تجريد الإنسان من جذوره القديمة والحديثة، ومن ثم تختفي ملامحه الاجتماعية والتاريخية، لأنه يصبح فرداً في العالم، ولعل موسوعة "نقد النقد" وكتاب "الجزيرة العربية أنساب وتقاليد" خطوة على الطريق نحو إثبات جدارة الشخصية العربية على المستوى الحضاري والتاريخي والإنساني.
النخبة سبب التراجع
ما تقييمك لموقع النخبة العربية المثقفة من الجماعة الشعبية العربية؟
النخبة هي سبب كل مشكلاتنا؛ فهي المسئولة عن غياب الوعي العربي بشقيه الجمعي والفردي، وهي السبب في تسطيح الإنسان في عالمنا، وإبعاده عن هويته وتاريخه وأصوله الأولى، وما نعانيه من فجوات ثقافية بين القاريء والمثقف والمبدع سببه تلك النخبة التي اعتمدت خطاباً نخبوياً متعالياً مثلها، ليس في استطاعته تجاوز الحناجر إلى أسماع وقلوب ومواجيد الإنسان العربي، ويؤسفني أن أقول إن الكثير الكثير من فعالياتنا المسماة بـ "الثقافية" محصلتها النهائية صفر بالنسبة لتشكيل وعي وثقافة الحضور.
لماذا ترجئين محاولات الكتابة الروائية دائماً في مقابل نظيرتها المسرحية؟
بداية ليس كل كاتب روائي يستطيع أن يكون كاتباً مسرحياً؛ لأن الكتابة المسرحية ليست سرداً كما هي الحال في الكتابة الروائية، ورغم حرفيتي في الكتابة للمسرح، فإنني أخشى من كتابة الرواية، وفي اعتقادي أن مرحلة الخوف هذه ستنتهي بصدور رواية جديدة قريباً جداً.
لماذا لم تحاولي خوض تجربة التمثيل المسرحي خاصة مع احتكاكك الكبير بالمسرح؟
قمت بالتمثيل في سن مبكرة في المسرح المدرسي، لكنني لا أجد في نفسي ممثلة جيدة حتى أخوض هذه التجربة، ثم إنني تقاليدية في عاداتي ومكوناتي البيئية والثقافية ومن ثم لم أجد مثل هذه التجربة تروق لي كثيراً.
بالنظر لمسرحيتك "إغتيال المواطن دو" كيف ترين التطبيع الثقافي مع إسرائيل ومن يدعون لمثل هذا التطبيع؟
كل مسرحياتي تقريباً تنطق بالعداء لهذا الكيان الغاصب القاتل الدموي الذي لا يتورع عن ارتكاب أى فعل متجرد من الإنسانية، لذا فرأيي معروف في تلك المسألة، أما من يدعون للتطبيع الثقافي فلهم رأيهم واعتباراتهم الخاصة التي لا أجد مبرراً للتدخل فيها أو التعليق عليها.
نص العازفة أنصف المرأة وحقوقها وصورتها المغلوطة في الإعلام
من منطلق مسرحيتك "العازفة" هل ترين المرأة العربية تستجدي حقوقها؟
نعم بالتأكيد، فلا تزال المرأة العربية مهضومة الحقوق، تعاني كثيراً من أجل الحصول على حقها في ممارسة حياتها كمفكرة وكإنسانة، ونص العازفة جاء تجسيداً لمعاناة المرأة العربية وللرد على صورتها المغلوطة عبر وسائل الإعلام المختلفة، تلك الصورة التي أظهرتها عكس ما هي عليه في حقيقة تاريخها الطويل الذي ينطق بدورها الكبير في رفع تهمة "العصبية" عن المجتمع العربي القبلي، تلك التهمة التي لم أجد لها أثراً حقيقياً في تاريخ العرب الممتد.
لكن لماذا تحملين الرجل وزر عدم صدارة المرأة ونهوضها؟
لم أحمل الرجل مثل هذا الوزر، والدليل أنني في مسرحية العازفة قدّمت الرجل والمرأة كثنائي غير قابل للفصل أو التجزئة؛ حيث يكمل كلاهما الآخر، حتى ما يحمله النص من قسوة ظاهرة للرجل في معاملته لها، جاء مقروناً بحبها الظاهر له وارتمائها بين يديه.
موقع المملكة يحتّم مراعاة الهوية الدينية عند الكتابة
في رأيك كيف تتحول الهوية الإسلامية في المملكة إلى عنصر داعم للمسرح؟
الهوية الإسلامية في المملكة الآن هي التي تسمح بإنجاز ثلاثة مهرجانات سنوية للمسرح ما بين المسرح الرجالي والمسرح النسائي، ومسرح الطفل، وهي خصوصية للمجتمع السعودي، وأرى أن المسرح في عهد الملك عبدالله قد اجتاز مراحل من التقدم والنهوض، ويبقى الدور على كاتب النص المسرحي ومخرجه إلى النور في مراعاة تلك الهوية في المملكة، وفي رأيي أن الكاتب المسرحي الواعي هو الذي يبتعد عن توظيف "التابوهات الثلاثة" الدين والجنس والسياسة بشكل يسيء للمضمون العام للعمل وللبيئة المحيطة به. خاصة في المملكة التي تملك هوية خاصة جداً ترتبط بوجود الحرمين الشريفين فيها.
في الختام، لماذا ربطت بين ثورات الربيع العربي وبين ظهور "زمن القنفذ"؟
لأن الربيع العربي أفرز لنا شخصية عربية "مقنفذة"، تتخذ من معطيات التكنولوجيا الحديثة ستاراً دفاعياً عن سماتها الوهمية التي تصور لها أنها جديرة بالحكم على الآخرين وتوصيفهم، بل ومحاكمتهم إذا لزم الأمر، كل ذلك رغم أنها في واقع الأمر شخصية لا تملك شيئاً من مقومات الفكر أو العلم أو الفلسفة أو ما يمكنها من الحكم على المادي والمعنوي بشكل صحيح، ورأيي أن السر في ظهور هذا النمط من الشخصية العربية هو هبوب رياح التحرر التي أزالت حواجز الضبط والربط لمجريات حياتنا الأدبية والثقافية والسياسية، وهو ما عكّر صفو المشهد العربي في أغلب المجالات؛ حيث يتصدر السفهاء والسطحيون وأشباه المثقفين، بينما يتأخر المستحقون للصدارة، والحقيقة أن هؤلاء جميعاً ضحايا أفكار ونظريات "فريدريك إنديك" و "توماس فريدمان" وغيرهما، والتي تهدف في الأساس إسقاط "الكاريزما" في كل العالم.