العالمة الأمريكية مارثا نوسباوم: أنا معجبة بحيوية المرأة العربية ونجاحاتها
مرة أخرى تنفرد مجلة عربيات بمحاورة واحدة من أكبر فلاسفة ومفكري الألفية الثالثة وهي الأمريكية الشهيرة البروفيسورة مارثا نوسباوم Martha Nussbaumالأستاذة حاليا بجامعة شيكاغو، وصاحبة الإسهامات الرائدة في حقول علمية مختلفة لا سيما في ميادين الفلسفة والسياسة وعلم الاجتماع والدفاع عن حقوق الإنسان، ولها في ذلك مؤلفات ذات شأن، ترجمت لأهميتها القصوى إلى جميع اللغات العالمية، نالت أهم وأشهر الجوائز التكريمية، آخرها الجائزة المعروفة "أمير آستورياس" عام 2012 في العلوم الاجتماعية، وفي اللقاء التالي نتعرف عن كثب على آراء البروفيسورة مارثا نوسباوم حول أبرز القضايا التي تشهدها الساحة العربية والعالمية الراهنة.
التعليم قد يقود الغرب للنظر إلى المسلمين كبشر كاملين الأهلية
في كتابك " التعصب الديني الجديد" ذكرت بأن الجهل بالإسلام هو السبب في ظهور ما يسمى بـ" الإسلاموفوبيا " في أوروبا،هل تتصورين بأن التعليم كاف لحل هذه المعضلة، ألا تعتقدين بأن وسائل الإعلام يلعب دورا سلبيا في تشويه صورة الإسلام بأمريكا وأوروبا لأسباب سياسية بالدرجة الأولى ؟
في الواقع، أنا أجد ضمن كتابي الذي ذكرت أكثر من سبب واحد للموجة الحالية من الخوف وعدم الثقة التي تستهدف الإسلام، ومن بين هذه الأسباب أن أوروبا لم تعتمد المبادئ الدستورية المشتركة الخاصة بحرية المعتقد و احترام المساواة في هذا الشأن، ففي كتابي قدمت شرحاً وافياً حول تطور الدستور الأمريكي وأثمن الحل الذي يطرحه، غير أنه مع ذلك ظل هناك مشكل عميق، وهو مسألة الهوية الوطنية، فالولايات المتحدة شأنها شأن بلدان مثل الهند، وأستراليا، وكندا وإفريقيا الجنوبية وعدد غير قليل من الدول الأخرى ترتكز هويتها الوطنية على مبادئ سياسية محضة، فإذا تقبلت هذه المبادئ ووافقت على العيش وفقها فستكون مواطناً مستوفياً كامل الحقوق، وبالنسبة للأوروبيين فقد اعتمدوا معياراً يتضمن مفهوماً مغايراً للهوية وهو مؤسس على الأفكار الرومانسية التي من بينها التراب، الدم، السلالة و اللغة باعتبارها من صميم الانتماء الوطني، ولهذه الأسباب مجتمعة فهم يجدون صعوبات بالغة في تقبل المهاجرين الجدد، الذين لهم مظاهر مختلفة عنهم ، حيث بالفعل كل شخص يصر في الحفاظ على هويته العرقية والدينية يعامل بتمييز ويقصى، وفي هذا السياق أذكر بأن اليهود في أوروبا خلال القرن الثامن عشر كانوا يعاملون بنفس المعاملة التي يلقاها المسلمون اليوم.
وفي تصوري أن التربية والتعليم هما بالفعل ضروريان، وبخاصة إذا كان هذا التعليم يمس الخيال ويدفع الناس إلى رؤية المسلمين كبشر مثلهم و متساويين معهم في الحقوق، ولكن ذلك لن يكون كافيا ًدون تغيير في الطريقة التي يتم بها تصور الأمة والانتماء.
الهند نموذج ديموقراطي ناجح لم تتدخل بريطانيا في إرساء قواعده
هل تعتقدين بأن الربيع العربي يعد مطية للإنسان العربي من أجل الحصول على حريته وكرامته، و ما هي رؤيتك لمستقبل العالم العربي في ظل الأحداث الكبرى التي شهدها إبان السنوات الأخيرة ؟
أنا لست خبيرة في شؤون العالم العربي، فعملي حول الإسلام وقد ركزت فيه خاصة على نموذجي الهند وبنغلاديش، اللذين لهما تاريخ مختلف تماماً، وأتصور بأن السؤال المهم هو كيف توصلت الهند إلى الوصول إلى حكم ديمقراطي تعددي ناجح، حيث لعب المسلمون فيه دوراً نشطاً، صحيح لم يخلو ذلك في بعض الأحيان من العنف والتمييز، ومع ذلك فالمواطن الهندي صار يفتخر بهذا الإنجاز، فكيف يا ترى نجحت الهند في تطويع نظام مثل النظام الديمقراطي الذي يحترم فعلاً المساواة بين المواطنين؟، وماذا يلزم البلدان العربية كي تحاكي هذا النظام الناجح؟
من هنا نشير إلى أن قيادة غاندي ونهرو تعد جزءاً مهماً من هذا الإنجاز التاريخي، لكن يبقى من غير الواضح حتى الآن أن القادة المتمسكين بتحقيق المساواة بين المواطنين سوف يبرزون في العالم العربي، كما أريد أن أشير أيضاً إلى الدور الذي لعبه الدستور الهندي المتميز، الموضوع من طرف بي آر أبدكار وهو من " الداليت " (أو من طبقة "المنبوذين" حسب التسمية القديمة)، والذي يتضمن حماية واسعة للأقليات والنساء.
وأخشى أن مصر-مثلا- لا تملك نفس الدستور –على الأقل حتى الآن، الشيء الآخر الذي ينبغي أن نقوله ضمن هذا السياق، هو أن البريطانيين رغم ما حققوه من نجاحات هائلة في الكثير من النواحي، إلا أنهم لم يرسوا أي أساس للديمقراطية في الهند من خلال دعمالإصلاح القانونيوسيادةالقانون، و ليس واضحا حتى الآن ما إذا كان هذا الأساس قد تم بناءه في العالم العربي.
وعلى نفس الصعيد، يكشف المنشق الإيراني أكبر غانجي في كتابه الممتاز "الطريق إلى الديمقراطية في إيران" أن الشروط المسبقة للديمقراطية موجودة في إيران، وحدها تقريبا بين دول العربية ( نذكر من بين هذه الشروط المستوى العالي في مجال التعليم، مجتمع مدني مهيكل بشكل جيد،حركات شبابية قوية، واستقلالية المرأة) غير أن إيران لم تتمكن من تكريس الديمقراطية في بلدها بسبب واحد هو القمع الوحشي، كما يعتقد هذا الكاتب بأن شروط الديمقراطية وضعت بشكل غير مكتمل في أنحاء أخرى من العالم العربي.
في كتبك نجد دفاعاً مستميتاً عن العلوم الإنسانية، خصوصا في مواجهة تكنولوجيات الاتصال الجديدة، بروفيسورة ألا تعتقدين أن أفكارك، وعلى الرغم من أنها تمثل دفاعاً مشروعاً عن الذكاء البشري، إلا أنها قد لا تؤثر في هذا العالم الذي يستسلم تماما إلى مغريات تكنولوجيات الاتصال الحديثة نظراً لخدماتها المتعددة؟
في الحقيقة إن كتابي في هذا المجال لم يوجه إلى الذين يعتقدون بأن التكنولوجيا هي مسألة ثروة فحسب، بل تحديداً للأشخاص الذي يؤمنون بالحرية السياسية وقضية الديمقراطية، وكان هدفي من ذلك هو حث الناس على دعم العلوم الإنسانية، مبرهنة على أنها هامة لبقاء و استمرار الديمقراطية، وفي تصوري أن هناك شريحة واسعة من الناس يمكنها أن تنتصر في هذا الشأن حتى ولو كان في مقدورها عدم تشجيع العلوم الإنسانية عن حب أو ذوق خاص.
المرأة الأمريكية تحلم بشغل مناصب في السلطة مقارنة بالهند
و ما هو رأي البروفيسورة نوسباوم في قضية المساواة بين الرجل والمرأة التي ما زال يدور بشأنها جدل كبير في أوساط المثقفين وخاصة في مجال الحرية، على اعتبار أن هناك فارقاً شاسعاً ما بين مفهوم الحرية لدى المرأة الهندية والسويدية ،على سبيل المثال، فهل برأيك ثمة معيار مشترك لمفهوم الحرية عند نساء العالم أجمع؟
لا أدري لماذا وضعت مقارنة ما بين الهند والسويد، لقد أمضيت زمنا طويلا في الهند وأعتقد بأنك ستجد من الصعوبة بمكان إيجاد بلد يلتزم بعمق في تكريس المساواة مع المرأة، ففي الهند النساء يشغلن مناصب في السلطة مازالت المرأة الأمريكية تحلم بها، على سبيل المثال كانت كوشيك باشو مستشارة اقتصادية للرئيس مانموهان سينغ وفي نفس الوقت رئيسة جمعيتنا الخاصة بالتنمية والقدرات البشرية، كما أنها باحثة كبيرة أمضت سنوات طويلة من مسيرتها المهنية في الكتابة حول المساواة ما بين الجنسين، والوكيل العامالحالي للهند أنديرا جيسينغ، تعد من المدافعين القانونيين عن الحركة النسوية وهي التي أنشأت المنظمات غير الحكومية الرائدة التي تعمل في مجال المساواة بين الجنسين، كما أن المستشارة الرئيسية لصونيا غاندي هي جين دريز الباحثة الاقتصادية التي ساهمت في تأليف كتب مشتركة مع أمارتيا سن (المتحصل على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1998) كما عالجت العديد من القضايا الخاصة بالمساواة بين الجنسين، وحتى لدى المعارضة فإن مسألة المساواة بين الجنسين تظل من أبرز الأولويات التي لا تجرؤ المعارضة من الجمهوريين في الولايات المتحدة على اتخاذ نفس مواقفها، وكل هذا يعني أن هناك التزاما شعبيا كبيرا ضمن هذا المجال في الهند، وهذا في الحقيقة منهج متبع منذ زمن ليس بالقريب، حيث أن غاندي ونهرو كانا من أشرس المدافعين عن المساواة بين الجنسين وقد منحا للمرأة مناصب سيادية في الحكم.
وفي عدد كبير من الولايات الهندية تشغل المرأة منصب رئيس وزراء ،وفي المجال الأكاديمي فإن للمرأة نفوذا لم تحصل عليه أي امرأة في أي دولة أخرى في العالم حسب معرفتي الشخصية ، وعليه فإن الفجوة ما بين الجنسين في الهند فيما يخص فرص التعليم والعمل غير موجودة على مستوى الطبقات المثقفة، وهي بالتالي تستمر في المناطق الريفية مشكلة عائقا كبيرا في مسيرة التقدم الاقتصادي بتلك المناطق، وعليه يجب القول بأن المشاكل في هذا الشأن لا تزال ذات شأن لكن مع الالتزام والتضامن العام لمواجهة هذه الصعاب فإنني أعتقد أن المستقبل يبدو أكثر إشراقا.
المرأة في السويد، تتأرجح مكانتها في المجالين الأكاديمي والسياسي
وفيما يتعلق بالحالة السويدية فإن هذا البلد صحيح يعاني من عنف جنسي أقل مقارنة بالولايات المتحدة والهند والنساء يبرزنا على نحو جيد في المجال السياسي، لكن على المستوى الأكاديمي فإنهن يبقين بعيدات في الخلف، ويرجع ذلك إلى تقاليد النصح والإرشاد وزواج الأقارب وشخصيا لا أريد أن يكون لي مستقبل مهني في السويد !
ولو خيرت ما بين الهند والسويد فقد يكون ذلك بالنسبة لي لحظة حرجة وصعبة، لأنني أعتقد بأن النساء الجامعيات يعاملن بطريقة أحسن في الهند غير أن المناخ العام في السويد أفضل بالنسبة لي، كوني لأزال مغنية هاوية أعاني من عديد الحساسيات..
وأعود إلى سؤالك "هل هناك معيار مشترك لمفهوم الحرية لدى كل نساء العالم؟"
نعم، أعتقد أنه يوجد هذا المعيار، إن ملف اللجنةالمعنية بالقضاء علىالتمييزضد المرأة CEDAWيعد وثيقة عالمية كتب وصدّق عليها من طرف كل نساء العالم، حيث أجد اختلافات طفيفة بين الأمم، على سبيل المثال، فإن السويد يعد البلد الأكثر رفضا لعدم تجريم العمل في مجال نوعية الجنس مقارنة بالدنمارك أو الهند، لكن هذه قضية تحتاج إلى برهنة أكثر تفصيلا، غير أنه فيما يتعلق بالقضايا الكبرى وخاصة تلك التي تضمنها ملف اللجنة المعنية بالقضاء على التمييز ضد المرأة فإن هناك اتفاقا وإجماعا شبه كلي.
المرأة العربية قفزت في المجال الأكاديمي وتحتاج إلى المزيد سياسياً واقتصادياً
و ما رأيك في المرأة العربية المعاصرة ؟
مرة أخرى، أقول بأنني لست مختصة في الشؤون العربية، حيث أعمل كثيراً في الهند وأغلبية النساء المسلمات اللائي أعرفهن هم في الولايات المتحدة، غير أنني بناء على الزيارات التي أقوم بها إلى الأردن أو لبنان، فإنني معجبة جدا بالطاقة الحيوية وكذا النجاح الذي حققته النساء العربيات، وقد تم عقد الاجتماع السنوي لجمعية التنمية البشرية في العاصمة الأردنية عمان، وفي حرم الجامعة ذهلت حين اكتشفت بأن 75% من طلبة هذه الجامعة المتميزة هم من الإناث، وهن يشكلن مجموعة مثيرة فعلا للإعجاب، وذات الشيء بالنسبة لطالبات الجامعة الأمريكية في بيروت، وأتصور أن المرأة في هذين البلدين لا تزال مع ذلك بحاجة إلى قطع أشواط معتبرة في مجال المساواة بين الجنسين في الميدان السياسي والاقتصادي، علما بأنهن خطونا خطوات كبيرة في ميدان المهن و التربية والتعليم، وعليه فهن فقط بحاجة إلى توسيع رقعة هذا النجاح الملحوظ، أما بالنسبة للمرأة المصرية فهي في وضع أكثر هشاشة وعدم استقرارن.
حق المرأة في الحجاب مكفول، والأوربيون متشددون حيال ذلك
لقد دافعت بشراسة عن الحجاب والنقاب، وهو موقف معتدل نادرا ما يلاحظ عند امرأة غير مسلمة، كيف استطعت تجاوز مورثوك الثقافي للوصول إلى هذه القناعة الإنسانية وبالتالي الانفتاح على الآخر المختلف عنك؟
أتصور بأن دفاعي عن اختيار ارتداء الحجاب أو البرقع (وطبعا دفاعي مبني على أن يكون هذا السلوك اختياريا وليس مفروضا بالقوة والعنف)، قد تم قبوله بشكل واسع في الولايات المتحدة وهو الموقف الغالبية الساحقة، ويبدو أنه حتى الجمهوريين المحافظين اتفقوا مع هذا الرأي ، والبعض من أفراد عائلتي محافظون جدا، كما تابعت أيضا حصصا كانت تبث من محطات إذاعية محافظة، وعليه فقد عرفت فيما بعد أن هناك إجماعا عاما على أن الناس حين يريدون أن يعبروا عن قناعاتهم الدينية باللباس، فإن لهم كامل الحق في ذلك، لكن في أوروبا الوضع يختلف تماما، فإن أرائي اعتبرت وكأنها خارج التيار الغالب و حتى "هجومية ".
ومن هنا واستنادا إلى طبيعة المشاكل التي سبق لي ذكرها أن الأوروبيين يعتقدون بأن الناس يجب أن يذوبوا ويتبنوا أفكار العرق المسيطر، كما أنهم يعتقدون بأن الدين نفسه يعد من الأفكار المنتمية إلى ما " قبل الحداثة " وبالتالي فإن كل لباس ديني يعد محرجا، وأتصور بأنني كيهودية و أرتل في معبدي يجعل الناس في أوروبا غير مرتاحين، وعليه ما العمل؟
أعتقد أنه علينا أن نعيش حياة دينية منفتحة والحديث بحرية، وإظهار ذلك في حياتنا، طالما أننا مواطنون ملتزمون و من حقنا التعبير عن هويتنا الدينية، وهذا ما أقوله عادة لطلابي المسلمين في الجامعات الأمريكية عندما يطلبون نصيحتي في هذا الشأن، غير أنه في أوروبا فإن وضعهم سيكون صعبا جدا، على اعتبار أن الفكرة الرئيسية المبنية على الاحترام المتبادل لم يتم قبولها بعد، وطالما أن الدول الأوروبية تستدعي المهاجرين الجدد إليها بغرض القيام ببعض الأعمال التي تحتاج إليها، فإنني آمل أنه مع مرور الوقت سوف تتغير مثل هذه المواقف المتشنجة، والأمر على كل حال يشبه أن نستضيف البعض لكي نعاملهم بفظاظة عندما يصلون إلينا.
التمييز يهدد سكان المناطق النائية من العالم
العالم السياسي اليوم يعتمد في المقام الأول على القوة والمصلحة، وأنتِ ترين بأن الكرامة البشرية وتكافؤ الفرص هي جوهر العدالة الاجتماعية والحرية، كيف يتم التوفيق بين هذين المبدأين المتناقضين؟، أليس هذا الصراع الجدلي يعد وقود المحرقة الإنسانية منذ أزمنة سحيقة؟
أعتقد أنك متشائم جدا في مجال السياسة، وبالتأكيد هناك دور كبير تلعبه القوة والمصلحة، هو أمر ليس بجديد، لكن في الوقت الحاضر لدينا حركة مزدهرة فيما يخص الدفاع عن حقوق الإنسان،وفي تصوري أننا ببساطة في حاجة للحفاظ على الحديث عن أهمية هذه القيم، ودعم الناس الذين يناضلون من أجل تحقيقها، وفي الوقت نفسه علينا أن نعمل لكي تكون أمتنا مهما كان وضعها تطبق المعايير الإنسانية العليا التي تتحدث عنها، وأنا أرى بأن الناس عادة يظنون بأن التهديدات التي تطال الحرية والمساواة لا تقع سوى في المناطق النائية من العالم، في حين أن نفس هذه التهديدات في الغالب توجد على مرمى حجر من منازلهم.