العوامات ألهمت الأدباء وعاصرت قرارات غيرت تاريخ مصر
رغم كل السحر والرومانسية والإثارة التي لا يمكن إغفالها، فإن أجواء العاصمة المصرية ناءت بما تحمله من صخب لا يستطيع المرء الهروب منه إلى أي مكان، غير أن الأصوات الوحيدة التي تصل إلى مسامع سكان العوامات في القاهرة هي تغريد الطيور المهاجرة، ومناجاة أغصان النخيل لأصوات الرياح، ورقرقة مياه النيل وهي تداعب أطراف بيوتهم العائمة.
وحتى إذا لم يكن أصحاب العوامات من ساكنيها طوال العام فهم يلوذون إليها في بعض شهور السنة كشهر رمضان الكريم تحديداً للاستجمام والاستمتاع بجو رمضان بعيداً عن الضوضاء والزحام وفي حضن ماء نهر النيل.
للعوامات تاريخ يمتد حتى أوائل القرن العشرين وكانت تسمى (الدهبيات) إذ كانت ترسو بمنطقة الزمالك، وتمثلت آنذاك كبيوت صيفية للأرستقراطيين الأتراك أو الباشوات مثلما كانت معتزلات وأماكن إقامة دائمة واستثنائية لنجوم المجتمع المعروفين مثل المطرب فريد الأطرش، ومحمد الكحلاوي، والفنان نجيب الريحاني، والمطربة منيرة المهدية فضلاً عن الكثير من الراقصات.
ومثلما كانت تلك البيوت البحرية القديمة لا تثير في مخيلة ناظريها سوى الرومانسية وروح المغامرة، حرص ملاك الدهبيات على صبغها باللون الذهبي ومن هنا جاءت تسميتها بـ"الدهبيات"، وكانت كل عوامة تختلف عن الأخرى فبعضها مزين بالرخام على نحو فخم، والبعض الآخر شبيه بالبيوت البرجوازية، فيما بنيت عوامات على الطراز الياباني حيث استبدلت جدرانها الخشبية بنوافذ ترتفع من الأرض وحتى السقف.
شاهدة على الأحداث
وللعوامات تاريخ آخر معلوم لدى المؤرخين، حيث شهدت على أحداث سياسية وخرجت من بين جنباتها قرارات غيرت مسار تاريخ مصر السياسي والاجتماعي، ويذكر أنه خلال الحرب العالمية الثانية صادر ضباط الجيش البريطاني عوامات النيل، كما أصبحت وكراً لجاسوسيين ألمانيين أخفاهما الكونت (لازلو الماسي) الذي تعرض فيلم (المريض البريطاني) الشهير لقصة حياته ، وكانت تلك العوامة ملكاً لحكمت فهمي أشهر امرأة تعرض لها التاريخ السياسي والمخابرات، ويُقال إنه بعد ذلك اختبأ الرئيس الراحل محمد أنور السادات في إحدى العوامات وهو يتآمر مع رفاقه ضد البريطانيين قبل حوالي 20 عاماً من ترؤسه حكم مصر، فيما استخدم الكاتب نجيب محفوظ العوامة مسرحاً لوصفه السياسيين المحرضين على التمرد وهم يتبادلون تدخين الشيشة (النرجيلة) وينتقدون الحكومة، وكانت قصة فيلمه الشهير "ثرثرة فوق النيل" توميء وتحكي عن تلك الوقائع وكان (السيد أحمد عبد الجواد) أو (سي السيد) بطل ثلاثيته الشهير يقطن إحدى العوامات، وقد ظهرت من خلال أحداث الثلاثية بعد أن تحولت إلى فيلم سنيمائي يرصد حقبة مهمة من تاريخ مصر السياسي والاجتماعي والديني.
عوامة منيرة
فيما أكدت الحكايات القديمة أن عوامة المطربة منيرة المهدية كانت مقراً لاجتماعات سرية خرجت منها قرارات غيرت مجرى الأحداث في مصر آنذاك، وتقول الشائعات إن الملكة نازلي أم الملك فاروق كان لديها عوامتها الخاصة أسمتها (مصر) تمضي إليها حين كانت تريد الترويح عن نفسها بعيداً عن عيون المتلصصين على خصوصية أفراد العائلة المالكة.
حكايات المشاهير
ولأكثر من خمسين عاماً كان السكن في العوامات أشبه بالإقامة الملوكي، حيث الماء والخضرة والوجه الحسن، وكان يقال عن زمن ما قبل عام 1952 إنه لو استرق السمع صحافي من خلال قارب بجوار عوامة لعرف أسرار مصر كلها، إلا أن هذا الزمن قد مضى وإن بقى بعض المشاهير يملكون العوامات منهم الفنان صلاح السعدني، والفنانة جالا فهمي، وعمرو واكد، والدكتور أيمن نور وغيرهم.
لكن الملاحظ الآن أن أغلبية الملاك للعوامات اليوم ليسوا من المشاهير بل من أصحاب المزاج الخاص، وعشاق هذا النوع من الرفاهية السكنية، وبإغلاق سوق العوامات العقاري الدائرة على نفسه بعد أن أصدرت الحكومة المصرية قراراً بمنع إقامة عوامات جديدة صارت الأسعار أعلى بحكم قانون الندرة مما عرضها للانقراض.
مثل هذه الأوجه السلبية لم تكن حاضرة في الذهن خلال زيارتنا المرتجلة لهذا العالم المدهش الذي يعيشه أناس تركوا خلفهم غابات الأسمنت ليقطنوا فوق صفحة الملك المستبد (النيل) كما وصفته السيدة إخلاص حلمي صاحبة أقدم عوامة في مصر وتقول: "حين يغضب النيل تعلو أمواجه منذرة بالخطر المحدق، لكن حين يرضى تكون مياهه مثل بركة زيت"، وتحكي السيدة إخلاص قصة عشقها للماء عندما كانت فتاة جميلة في شبابها وتعيش مع والديها بالعوامة، حتى انتقلت للعيش بالزمالك بعد زواجها من ثري معروف، وبعد وفاته عادت للعوامة ولم تبرحها حتى الآن، ويعرف عن إخلاص حلمي معاصرتها للعديد من الفنانين وكبار السياسيين من أصحاب العوامات، وكان لتلك العوامات رونقها لكنها الآن أصبحت تطل على مناطق عشوائية، ومن يخرج منها يصطدم بزحام الشارع وصخبه ليخرج من حالته الرومانسية المشبعة بنسيم العوامات وهواء النيل العليل إلى عوادم السيارات واختناق المرور، وتحكي إخلاص عن أنواع العوامات فتقول: "ثمة نوعين: الأول، ثابت لا يتحرك من مكانه وعادة يتكون من الخشب ومهيأ للسكن، ويضم الطابق الواحد أربع حجرات تطل معظمها على النيل، أما النوع الثاني، فيحتوي على موتور ينتقل بها من مكان لآخر وكان أصحابها يتجهون بها إلى المصايف خلال فصل الصيف ومن بينها مصيف رأس البر".
وحول مشكلات ساكني العوامات تشير إلى أن العوامات الآن صارت عبئاً على أصحابها لأنها تحتاج صيانة قد تتكلف آلاف الجنيهات سنوياً، هذا بالإضافة إلى الضرائب التي تستحق عليها والضوضاء التي تسببها شرطة المسطحات المائية لنا.
العوامات وسكن الباشوات
أما أحد رجال الأعمال الذي يمتلك أحد العوامات القريبة من كوبري الزمالك فيقول: "أمتلك العوامة منذ أكثر من 25 عاماً، ولا أتصور أن أعيش في مكان آخر فقد أصبحنا جزءاً منها ومن المكان الذي لا يزاحمنا فيه أحد، ولا جيران لنا سوى صفحة الماء الرقراقة التي تعكس صفاء الأيام الجميلة، أما الآن صار يزاحمنا فيها الباعة الجائلون وأصوات المركبات من كل صنف ولون".
ويقول الحاج محمد إبراهيم (سمسار): "كانت العوامات سكنى للباشوات وأصحاب (المزاج الرايق) وأولاد العائلات، أما الآن فأصحابها من التجار وأصحاب الجيوب الدافئة"، وعن أسعار العوامات يقول: "زادت سوق عقارات العوامات زيادة جنونية ووصلت أسعارها إلى أرقام فلكية فإيجار العوامة تجاوز 4500 جنيه شهرياً، فضلاً عن الضرائب والصيانة أما إذا أردت امتلاك عوامة فلابد أن تكون من أصحاب الستة أصفار حيث تتراوح أسعارها من نصف مليون إلى خمسة ملايين جنيه لذلك فإن العوامات أصبحت مهددة بالانقراض".
العوامة(70) استديو تصوير سينمائي
وكانت "العوامة 70" محوراً لأحداث أحد الأفلام الشهيرة التي حملت نفس الاسم ويقول حارسها الحاج سيد إنها كانت مملوكة للفنان الراحل أنور إسماعيل، وقد اشترتها سيدة أميركية تعيش فيها بصحبة قططها وكلابها من مختلف الأنواع، كما تحولت كثير من العوامات إلى كازينوهات وملاهي ليلية، ويستخدمها ملاكها الحاليين لأغراض التجارة والسياحة سواء كانت راسية أو متحركة.