السعودية تودع فقيدها بوفاء، وتبايع مليكها بثقة
ودعت المملكة العربية السعودية خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز الذي توفي يوم الجمعة 23/يناير/2015 بعاصفة من الحزن والألم عبر عنها المواطنون عبر الشبكات الاجتماعية قبل أن تتوالى ردود الأفعال الدولية وتتوجه الوفود رفيعة المستوى التي ضمت ملوك وزعماء العالم صوب قصر اليمامة بالرياض لتقديم العزاء لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود الذي تمت مبايعته ملكاً، ولصاحب السمو الملكي الأمير مقرن بن عبدالعزيز آل سعود ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء، ولصاحب السمو الملكي الأمير محمد بن نايف بن عبدالعزيز ولي ولي العهد النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية وللأسرة المالكة.
ولعل أبرز التعليقات الدولية التي عبرت عن المشهد ما ورد في مجلة "فورين بوليسي":
"الملك عبدالله كان الرجل الوحيد الذي يمكن أن يعلو صوته على الأزمات، عندما يتحدث تنصت المنطقة باهتمام، وما توافد الزعماء للمشاركة في تقديم التعازي اليوم إلا مؤشراً على الدور المركزي له في الشرق الأوسط".
عهد التسامح والمصالحة
كانت أكثر التعابير انتشاراً بين السعوديون لوصف مليكهم الراحل "حبيب الشعب"، معبرين عن اقترابه منهم بلغة الخطاب، والتواضع، والأعمال التي اختار –يرحمه الله- أن يبدأ عهده بها مقدما دروس التسامح، عندما أصدر في أولي جلسات مجلس الوزراء السعودي التي رأسها عندما كان وليا للعهد عفوا عن المتهمين الليبيين الذين أدينوا بمحاولة اغتياله في شهر نوفمبر عام2003 متنازلاً عن حقه الخاص في سبيل مصلحة عامة لجمع كلمة الأمة وإذابة الخلافات، فعبر لشعبه عن أبرز ملامح شخصيته.
وأتبعها بخطوة الإفراج عن الموقوفين السعوديين من مختلف الأطياف الثقافية والفكرية، معبراً عن أهمية التعايش واحتواء الاختلافات، ومشيراً إلى ذلك في مناسبات مختلفة خاطب فيها المواطنين.
«سبق لي أن قلت وأكرر أمامكم الآن أن هناك أمرين لا يمكن التساهل فيهما، وهما شريعتنا الإسلامية، ووحدة هذا الوطن، وأصارحكم القول إنني أرى أنه لا يتناسب مع قواعد الشريعة السمحة ولا مع متطلبات الوحدة الوطنية، أن يقوم البعض بجهل أو بسوء نية بتقسيم المواطنين إلى تصنيفات ما أنزل الله بها من سلطان؛ فهذا علماني، وهذا ليبرالي، وهذا منافق، وهذا إسلامي متطرف، وغيرها من التسميات، والحقيقة هي أن الجميع مخلصون - إن شاء الله. لا نشك في عقيدة أحد أو وطنيته حتى يثبت بالدليل القاطع أن هناك ما يدعو للشك؛ لا سمح الله»
وتوافقت مقولاته مع العمل عندما أطلق مبادرة تأسيس مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني إبان ولايته للعهد وراعياً لجولاته التي نجحت في المرة تلو الأخرى في توطين الجميع على الاستماع لمختلف الآراء والتعبير بحرية عنها والقبول بوجودها بين النخب والعامة مع بثها على الهواء مباشرة واستلام توصياتها وتوجيه المشاركين في ختام كل جلسة من جلسات الحوار الوطني، مقراً بوجود التنوع والثراء الثقافي والفكري الذي تضمه أرض توحدت على يد المؤسس –يرحمه الله- وساعياً إلى المحافظة على توحيد أطيافها.
"لا يراودني أدنى شك أن إنشاء المركز وتواصل الحوار تحت رعايته سوف يكون بإذن الله إنجازا تاريخيا يسهم في إيجاد قناة للتعبير المسئول سيكون لها أثر فعال في محاربة التعصب والغلو والتطرف ويوجد مناخا نقيا تنطلق منه المواقف الحكيمة والاراء المستنيرة التي ترفض الإرهاب والفكر الإرهابي".
ومن تبنيه للغة الحوار محلياً إلى إطلاق مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات، مؤكداً على أن الحوار لغته ومنهجه لمواجهة الصراعات الفكرية.
"ليكن حوارنا مناصرة للإيمان في وجه الإلحاد، والفضيلة في مواجهة الرذيلة والعدالة في مواجهة الظلم والسلام في مواجهة الصراعات والحروب والأخوة البشرية في مواجهة العنصرية".
وواصل مساعيه للمصالحة ووحدة الصف برعايته لتوقيع اتفاقية للمصالحة بين الفصائل الصومالية المتحاربة، وتوقيع معاهدة الصلح بين أطراف القيادات العراقية (سنة وشيعة) عام 2006، واجتماع الفصائل الفلسطينية في عام 2007، وأسدل الستار على عام 2014 قبل رحيله، بتسوية أكبر خلاف شهدته دول مجلس التعاون الخليجي وإعادة اللحمة الخليجية إلى سابق عهدها.
كما يحسب له قيامه بتوسيع قاعدة المشاركة الشعبية وإطلاق مبادرة انتخابات المجالس البلدية في عام 2005.
التعليم على رأس قائمة أولوياته
مستثمراً في بناء الإنسان أطلق الملك الراحل برنامج خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز للابتعاث الخارجي برؤية ثاقبة للابتعاث في التخصصات التي تحتاجها المملكة والمقدمة في الجامعات الرائدة عالميًّا، لتزويد سوق العمل المحلي بإحتياجه من الكوادر السعودية المؤهلة المتخصصة. البرنامج الذي بدأ في عام ٢٠٠٥ بعدد خمسة آلاف مبتعث ومبتعثة في الولايات المتحدة، ضم إلى اليوم حوالي 250 ألف مبتعث ومبتعثة في أكثر من ٣٠ دولة حول العالم، مدعوماً بميزانية ضخمة للإنفاق عليه، ومصاحباً لمضاعفة عدد الجامعات الحكومية المحلية التي قفزت من 11 جامعة مع بداية توليه مقاليد الحكم رحمه الله حتى وصلت إلى 39 حكومية وأهلية.
كما أطلق مشروعه لتطوير التعليم العام ورصد له في ميزانية 80 مليار ريال. بالإضافة لافتتاح جامعة الأميرة نورة للبنات، وجامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية دعماً للبحث العلمي.
"لقد ارتبطت القوة عبر التاريخ بعد الله بالعلم، والأمة الاسلامية تعلم أنها لن تبلغ ذلك إلا اذا اعتمدت بعد الله على العلم، فالعلم والإيمان لا يمكن أن يكونا خصيمين إلا لدى النفوس المريضة، ولقد أكرمنا الله بعقولنا التي بوسعها أن تعرف سنة الله في خلقه، وهو القائل جل وعلا (انما يخشى الله من عباده العلماء) و هذا هو المعنى الثاني للجامعة".
شراكة المرأة في التنمية
أصبحت المرأة السعودية في عهد الملك عبدالله يرحمه الله شريكة في صناعة القرار بداية بحقها كسيدة أعمال في الترشح والاقتراع في انتخابات مجالس إدارة الغرف التجارية، ومروراً بتسهيل إدارة أعمالها وإنضمامها لمجالس إدارات منشآت القطاع الخاص، ووصولاً إلى القرار التاريخي بمشاركة المرأة في مجلس الشورى والذي تكلل بتعيين 30 إمرأة، بالإضافة لمنحها حق الترشح والاقتراع في انتخابات المجالس البلدية القادمة.
"قررنا مشاركة المرأة في مجلس الشورى عضواً، اعتباراً من الدورة القادمة وفق الضوابط الشرعية، ويحق للمرأة أن ترشح نفسها لعضوية المجالس البلدية من الدورة القادمة ولها الحق في المشاركة في ترشيح المرشحين وفق ضوابط الشرع، لأننا نرفض تهميش دور المرأة في المجتمع السعودي في ظل مجال عملها وفق الضوابط الشرعية وبعد التشاور مع كثير من علمائنا في هيئة كبار العلماء ومن خارجها والذين استحسنوا هذا التوجه وأيدوه".
عوضاً عن ذلك تقلدت المرأة السعودية في عهده –يرحمه الله- العديد من المناصب القيادية في القطاع الخاص والعام، وكان ذلك نتاج التحاقها ببرامج الابتعاث والاعتراف بقدراتها وتقدير انجازاتها على الصعيد المحلي والدولي.
مشاريع البنى التحتية
شهد عهد الملك الراحل طفرة في مشاريع البنى التحتية العملاقة في مختلف مناطق المملكة، كان من أبرزها التخطيط لإنشاء مدن اقتصادية في كل من رابغ وحائل والمدينة المنورة وجازان وتبوك، ومشاريع تسهيل الحج مثل جسر الجمرات الجديد، وقطار الحرمين السريع للربط بين المدينة المنورة ومكة، وقطار المشاعر المقدسة للربط بين مكة ومنى وجبل عرفة ومزدلفة، بالإضافة لوضع حجر الأساس لأكبر توسعة للحرم المكي والمسجد النبوي، وإنشاء المدن الطبية، وتخصيص 250 مليار ريال لمشاريع الإسكان، والأمر بانشاء 11 استادا رياضيا بمختلف مناطق المملكة.
الاقتصاد
انضمت المملكة العربية السعودية في بداية عهد الملك عبدالله –يرحمه الله- لمنظمة التجارة العالمية، وأحرزت تقدماً في استقطاب الاستثمار الأجنبي لتصبح من أكثر ثلاث دول التزاماً بحرية الأسواق وتبنياً لمبادرات تحرير التجارة، وتصدرت ترتيب الدول الملتزمة بتنفيذ التزامات مجموعة العشرين، واتخذت خطوات جادة لتحقيق الأهداف الأساسية للمجموعة بدعمها لصندوق النقد الدولي وتقديم المساعدات لبنوك التنمية التي تعمل على مواجهة الفقر وتحسين الأوضاع الاجتماعية والانسانية والاقتصادية، إذ تعد المملكة من أكثر الدول المانحة فعالية في هذا الإطار مضطلعة بدورها الهام في تحقيق التوازن خاصة لمنطقتها التي تعاني من العديد من الأزمات والاضطرابات السياسية التي تنعكس بدورها على الاقتصاد. إلى جانب دورها الريادي في استقرار أسواق الطاقة العالمية بما يخدم الدول المصدرة والمستهلكة، واتخاذها لخطوات جادة لخفض الاستهلاك المحلي للطاقة توافقاً مع الاتجاهات الدولية وللحد من الهدر في الطاقة وانعكاساته المستقبلية على الاقتصاد المحلي، وذلك بالتعاون مع القطاع الخاص لتوفير المواصفات الجديدة للأجهزة الاستهلاكية، ومواصفات البناء، وتوعية المستخدم. كما منحت الأولوية لتنمية الموارد البشرية ومواجهة مخاطر البطالة بخلق فرص العمل، والانفاق على المشاريع الضخمة للتعليم والبنى التحتية بما فيها الاسكان ومشاريع النقل والمواصلات التي سيكون لها على المدى المتوسط والبعيد دور في توليد الفرص الوظيفية وتخفيض معدلات استهلاك الأفراد للطاقة والوقود، وهي من الأمور التي تضعها استراتيجية التنمية الاقتصادية لمجموعة العشرين على رأس قائمة أولوياتها لمواجهة التحديات المستقبلية. وحسب تقرير نشرته صحيفة الرياض فإن السعودية في عهد الملك عبدالله استطاعت مضاعفة أصولها الاحتياطية اربع مرات، لتصل إلى نحو 2.7 مليار ريال في 2013، وارتفعت بنسبة 368% مقارنة مع 2005. وتضاعف الناتج المحلي الإجمالي للبلاد ليصل إلى 2.8 تريليون ريال في 2014، و بنسبة نمو بلغت 127% مقارنة بعام 2005، وهي أعلى نسبة نمو بين دول مجموعة العشرين. واحتلت المملكة المرتبة الثامنة عالمياً من حيث القوة التصويتية في صندوق النقد الدولي من بين 185 دولة عضو في الصندوق.
نهاية وبداية جديدة
ودع الملك عبدالله بن عبدالعزيز –يرحمه الله- شعبه وسط مشاعر غامرة بالحب والتقدير والوفاء لوصيته:
"يعلم الله أني أحملكم بقلبي واستعين بالله وبكم، فلاتنسوني من دعائكم"
وأمل مدعوماً بالثقة التي عبروا عنها بمبايعة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز يحفظه الله، الذي افتتح عهده معهم بكلمته:
"سنظل بحول الله وقوته متمسكين بالنهج القويم، الذي سارت عليه هذه الدولة منذ تأسيسها على يد الملك المؤسس عبدالعزيز- رحمه الله، وعلى أيدي أبنائه من بعده -رحمهم الله-، ولن نحيد عنه أبدا، فدستورنا هو كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فأمتنا العربية والإسلامية هي أحوج ما تكون اليوم إلى وحدتها وتضامنها، وسنواصل في هذه البلاد- التي شرفها الله بأن اختارها منطلقا لرسالته وقبلة للمسلمين- مسيرتنا في الأخذ بكل ما من شأنه وحدة الصف وجمع الكلمة والدفاع عن قضايا أمتنا، مهتدين بتعاليم ديننا الإسلامي الحنيف الذي ارتضاه المولى لنا، وهو دين السلام والرحمة والوسطية والاعتدال".