قراءة في التاريخ: النسر الأمريكي في خبر كان
شهدت العقود الثلاثة الأخيرة في سياسة الولايات المتحدة الأمريكية دلائل كثيرة على تراجع هيمنتها على العالم كقوى عظمى منذ السبعينات حتى أطاحت هجمات 11 سبتمبر / أيلول 2001م بما تبقى من قوتها لتتلاشى ملامح السياسة الأمريكية في القرن العشرين وتحل محلها ملامح جديدة.
و بقراءة تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية نجد أن العوامل العسكرية والاقتصادية والسياسية التي ساهمت في هيمنتها على العالم كقوى عظمى هي نفس العوامل التي ستؤدي إلى فناء أمريكا وتلاشي هيمنتها عالميا .
فعلى المستوى الاقتصادي يسجل التاريخ الخطوات الجادة نحو التقدم الاقتصادي والصناعي التي بدأتها الولايات المتحدة خاصة في إعادة بناء هيكلها الاقتصادي ليدعم موقعها العالمي بعد الدمار الشامل الذي لحق بالعديد من بلدان العالم من المحيط الأطلسي إلى الهادي عقب الحرب العالمية الأولى والثانية .
حيث شقت الولايات المتحدة طريقها إلى الهيمنة على العالم اقتصاديا منذ الكساد العالمي الذي أصاب دول العالم في عام 1873 ولم يرافقها في نموها الاقتصادي سوى ألمانيا التي فازت مع الولايات المتحدة بالعديد من الأسواق العالمية على حساب الاقتصاد البريطاني الذي توقف نموه تماما.
وقد ساعدت القاعدة السياسية المستقرة في كل من الولايات المتحدة وألمانيا على النمو الاقتصادي في كل من البلدين حيث نجحت الولايات المتحدة في إخماد الحرب الأهلية بينما خرجت ألمانيا منتصرة من حربها مع فرنسا " حرب" فرا نكو البروسية " منذ عام 1873 إلى 1914 " لينهضا بقوتهما الاقتصادية .
كما واجهت الولايات المتحدة تحديات سياسية وعسكرية عنيفة مع الاتحاد السوفيتي السابق الذي كان يهيمن على ثلث العالم ويمتلك أكبر عدد من القوات البرية عالميا بينما الولايات المتحدة تهيمن على باقي دول العالم لكنها تواجه ضغوط داخلية عنيفة لتقليص قوتها البرية .
وقد أدى سباق التسلح بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي إلى اعتماد واشنطن على تطوير الآلة العسكرية بهدف التفوق لعسكري بدلا من الاعتماد على زيادة قوتها البرية مما أدى إلى بناء
ترسانتها النووية بالإضافة إلى قوتها الجوية القادرة على الانتشار في أي وقت .
وظلت أمريكا محتكرة السلاح النووي لفترة طويلة حتى تمكنت موسكو من كسر هذا الاحتكار في عام 1949م وأقامت ترسانتها النووية مما دعا الولايات المتحدة لفرض الحظر على تسرب الأسلحة البيولوجية والكيماوية لتنفرد بتصنيعهما وتحتفظ بقوتها العسكرية على المستوى العالمي .
واستمرت الحرب بين واشنطن وموسكو لسنوات طويلة والذي عرف بالحرب الباردة وأخذ صور عديدة من حرب الإرهاب بين الدولتين وتم اختبار قواتهما ثلاث مرات أولهما في حصار برلين عام 1948م والذي استمر لمدة عام والثانية في حرب كوريا والتي استمرت ثلاث سنوات والثالثة في أزمة صواريخ كوبا عام 1962م وقد خلصت اختبارات القواتين إلى إبقاء الوضع كما هو عليه من الصراع الأمريكي السوفيتي .
واستفادة الولايات المتحدة من الحرب الباردة في إعادة بناء اقتصادها واسترداد مكانتها الاقتصادية في الأسواق العالمية خاصة أوربا الغربية و اليابان وأيضا كوريا الجنوبية وتايوان حتى وصلت إلى تفوق اقتصادي لم يسبق له مثيل كما قدمت مساعدات اقتصادية للبلاد التي تسعى لبناء اقتصادياتها في مقابل الدخول مع الولايات المتحدة في تحالف عسكري وتقديم المزيد من التذلل السياسي
وقد رفعت الولايات المتحدة لواء العالم الحر في كثير من البلدان الشيوعية التي عانت كثيرا من غياب الديموقراطية والذي ظهر جليا في تراجع الفكر الشيوعي في كثير من البلدان ففي أوربا تراجعت الأحزاب الشيوعية في الانتخابات الحرة مثل بلجيكا وفرنسا وإيطاليا وتشكوسلوفاكيا وفنلندا وفي آسيا تراجعت الشيوعية في فيتنام والهند واليابان بالإضافة إلى كافة أنحاء أمريكا اللاتينية في حين ما تزال تعاني كثير من البلدان مثل الصين واليونان من القهر والديكتاتورية رغم تفكك الاتحاد السوفيتي الذي ظل لفترة طويلة محافظا على موقعه كزعيم تقدمي وضد الإمبريالية الأمريكية.
ورغم هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية بقوتها على العالم لفترة طويلة إلا أن المؤشرات الحالية التي تندرج في أربع أحداث متتالية في تاريخ أمريكا تدل على رحيلها وانجرافها بصورة خطيرة وسط فوضى عالمية فقدت فيها واشنطن السيطرة عليها بداية من حرب فيتنام ثم ثورات 1968 وسقوط برلين وهجمات 11 سبتمبر 2001م
وتسجل حرب فيتنام سلسلة من كفاح الشعب الفيتنامي في حربهم مع الفرنسيين واليابانيين والأمريكيين لإقامة دولتهم الخاصة كما يعد نصر فيتنام رمزاً لقوى التحدي رغم أن مثلث الحرب لم يعترفوا بالهزيمة خاصة على المستوى السياسي .
وتشير حرب فيتنام إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت حمقاء لاستثمار قوتها العسكرية في فيتنام ويحسب للإدارة الأمريكية أنه رغم الهجوم العنيف التي تعرضت له لاستخدام السلاح النووي في فيتنام إلا أنها رفضت خوفا من هدم إتفاقية " يالتا " ولربما " بالإضافة إلى إشعال محرقة نووية في فيتنام وهو ما لا يمكن للولايات المتحدة أن تخاطر بها .
ولم تكن حرب فيتنام مجرد هزيمة عسكرية أو نكبة على السمعة الأمريكية بل كانت بمثابة ضربة رئيسية لقدرة الولايات المتحدة في المحافظة على هيمنتها على العالم كقوة اقتصادية خاصة وأنها استنزفت قواتها المالية حتى الاحتياطي الأمريكي من الذهب في حين تماثلت أوربا الغربية واليابان للشفاء وبدأت في النهوض الاقتصادي بما لا يسمح لأمريكا بالهيمنة الاقتصادية على العالم .
بينما دعمت ثورات 1968 حول العالم الفيتناميين أدانت التواطؤ السوفيتي مع الولايات المتحدة خاصة في اتفاقية " يالتا " كما قسمت ثورة 1968 التي خرجت من المثقفين الصينيين العالم إلى معسكرين أولهما ضم الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي والثاني ضم باقي دول العالم
بما أثر على الهيمنة الأمريكية على العالم في ظل نشاط الأحزاب الشيوعية وظهور حركات التحرير في العالم الثالث وأيضا ظهور الحركات الديموقراطية الاجتماعية في أوربا الغربية وجميعها قاومت الهيمنة الأمريكية على العالم .
وحاولت الولايات المتحدة في أوائل السبعينات استعادة قوتها وهيمنتها على العالم في ظل الركود الاقتصادي الذي أحدث فوضى داخلية ومستويات متدنية من المعيشة وديون متراكمة على المؤسسات المالية العالمية .
وتمثلت محاولات واشنطن في مساعدة حركات التحرير في دول العالم الثالث على التخلص من الاستعمار وإعادة النظام والاستقرار في كثير من البلدان حيث أرسلت قواتها إلى لبنان وبنما والصومال إلا أن القوات الأمريكية خسرت أكثر مما كسبت من تدخلها العسكري في هذه البلدان .
ثم توالت الأحداث في تاريخ أمريكا ووصل المحافظون إلى الحكم في الثمانينات ورفعوا لواء التحرر الاقتصادي من خلال برنامجهم الذي حاول تشريع السياسات التي تخفض تكاليف العمل وتقلل القيود على المنتجين وأيضا تقلل منافع الرفاهية ورغم ذلك كانت النجاحات الفعلية بسيطة لذلك بدأ المحافظين يتحركوا نحو المحافل الدولية والتي ظهرت بشائرها في منتدى الاقتصاد العالمي في دافوس وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية.
كما حاولت الولايات المتحدة الاستفادة من انهيار الاتحاد السوفيتي وتدمير حائط برلين في زيادة هيمنتها على العالم إلا أنها فشلت في ظل الخسائر الكبيرة التي لحقت بالشرعية الدولية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وبعدها الشيوعية في أوربا الشرقية والتي ظهرت ملامحها في الاحتلال العراقي للكويت حيث حاولت الولايات المتحدة استغلال حرب الخليج في إعادة هيمنتها على العالم تحت لواء تطبيق الشرعية الدولية والمحافظة على النظام العالمي .
وتعد حرب الخليج وهجمات 11 سبتمبر الحدثان الرئيسيان في النزاع العالمي خاصة وأن الولايات المتحدة لعبت دور دبلوماسي فقط في دول البلقان حيث انشغلت بحقوق الإنسان في حرب يوغوسلافيا التي استمرت لمدة عشرة أعوام رغم المجازر البشرية والعنف الوحشي والتطهير العرقي على عكس الوضع في الشرق الأوسط حيث اختارت مبدأ القوة والهيمنة العسكرية عن الخيار الدبلوماسي للمحافظة على سمعة الصقور الأمريكية والتي تحطمت في بنما كما رأت الولايات المتحدة إزاحة الرئيس العراقي صدام حسين من الحكم واحتلال العراق هي الوسيلة الوحيدة في فرض قوتها العسكرية على العالم .
ثم جاءت هجمات 11 سبتمبر/ أيلول التي زلزلت العالم وكانت بمثابة القشة التي قسمت ظهر البعير خاصة وأن منفذي الهجمات حسب ما أجمع علية الخبراء لا يمثلون قوة عسكرية بل مجرد تنظيم وأعضاء غير حكوميين استطاعوا بدرجة عالية من التخطيط والتصميم والتحدي وبقليل من المال أن ينفذوا هجوم جريء على الأراضي الأمريكية .
وكان رد الفعل الأمريكي متمثلا في رئيسة جورج إتش دبليو بوش الذي وصل إلى الحكم بسبب نقده اللاذع للسياسة الخارجية التي أنتهجها الرئيس السابق كيلنتون هو إعلان الحرب على الإرهاب وبدأت الإدارة الأمريكية في تهيئة الشعب الأمريكي للحرب وتأكيد النصر كما قسمت الولايات المتحدة العالم عقب إعلانها الحرب إلى مؤيد ومعارض بهدف عودة الصقور الأمريكية للهيمنة على العالم وفرض قوتها من جديد واستعراض عضلاتها العسكرية وهو ما لا يلقى إعجاب واستحسان العديد من قادة العالم إلا أنهم غير قادرين على إعلان رأيهم أو وقف أي هجوم أمريكي على أي دولة .
ويرى لايمانويل ويلر شاتاين الباحث بجامعة بيل الأمريكية الإدارة الأمريكية بدأت في حربها على الإرهاب لفرض هيمنتها على العالم من خلال ثلاث محاور الأول الهجوم العسكري على أفغانستان والثاني الدعم الحقيقي والكامل لإسرائيل بهدف تصفية السلطة الفلسطينية والثالث احتلال العراق والإطاحة بنظام الرئيس صدام حسين في غضون عام منذ هجمات 11 سبتمبر / أيلول 2001م .
والجدير بالذكر أن الحرب الأمريكية أدت إلى إسقاط حكم طالبان في أفغانستان دون تفكك الكامل للقاعدة أو أسر قيادته العليا وأيضا الدمار الشامل في فلسطين بدون إبعاد الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات في حين تواجه أمريكا معارضة شديدة من حلفائها في أوربا والشرق الأوسط في احتلال العراق.
وما تزال الولايات المتحدة تتعامل بغطرسة القوة وتؤكد للعالم على أنها ستنجح في احتلال العراق وإسقاط نظام صدام حسين كما ستمارس قوتها العسكرية على إيران وكوريا الشمالية وكولومبيا وربما إندونيسيا في حين تعارض كل من روسيا والصين والمملكة العربية السعودية ومصر وسوريا وأوربا الغربية الخطة العسكرية الأمريكية مؤكدين أن الصقور ستفشل في مهمتها لأسباب أيدلوجية واقتصادية وعسكرية مما يترتب عليه السقوط السريع للولايات المتحدة بدلا من السقوط التدريجي بالإضافة إلى فوضى عالمية نتيجة استخدام القوة في الهيمنة الأمريكية .
و يؤكد الخبراء العسكريين أن الولايات المتحدة تفتقر إلى عنصر الخبرة الحربية رغم امتلاكها أضخم ترسانة عسكرية متطورة في العالم حيث لم تخوض في تاريخها سوى ثلاث حروب فقط حرب كوريا وفيتنام وحرب الخليج ولم تحقق سوى انتصار واحد في مقابل تعادل في الحربين الآخرين إن لم تكن هزيمة وهو ما يعني أن سجل واشنطن العسكري ليس حافل بما يجعلها تفرض قوتها العسكرية على العالم .
كما أن جيش صدام ليس جيش طالبان حيث تماسكه العسكرية على المستوى الداخلي أكبر بكثير من طالبان بالإضافة إلى قوته البرية ولهذا فمن الصعب أن تشق الولايات المتحدة طريقها إلى بغداد دون خسائر فادحة في ظل تراجع التأييد العالمي لاحتلال بغداد بالإضافة إلى رفض المملكة العربية السعودية استغلال أراضيها كنقطة انطلاق للهجوم على العراق وبذلك لم يبقى أمام الولايات المتحدة إلا الكويت وتركيا لشن هجومها على العراق متحملة بذلك كافة الخسائر المالية والبشرية والعسكرية .
ومما لا شك فيه أن واشنطن تواجه صعوبات كبيرة في هجومها على العراق خاصة في ظل مقاومة الرئيس صدام حسين للاحتلال الأمريكي واستغلال كافة قوته في وقف الزحف على بغداد بالإضافة إلى شعور العالم العربي بمعاداة أمريكا للعرب .
كما تواجه واشنطن ضغوط داخلية كبيرة أهمها خوف الرأي العام الأمريكي من تكرار نكبة فيتنام خاصة وأن آثارها ما تزال موجودة في المؤسسات العسكرية والاقتصادية وأيضا الخسائر البشرية في الأرواح بالإضافة إلى ضعف الاقتصاد الأمريكي وتعرضه للنكبات المتتالية والنفقات العسكرية الباهظة التي تعيق نموها الاقتصادي.
وخلال العشر سنوات القادمة ستجني الولايات المتحدة الأمريكية ما صنعت يديها إذا استمرت في غطرستها العسكرية فمن خلال قراءة الأحداث الحالية فإن الولايات المتحدة عاجزة عن مواجهة العراق لوحدها وتحقيق النصر دون تحمل الأضرار الهائلة على المستوى الاقتصادي ومقدراته القومية والأرواح البشرية.
ولهذا يبحث بوش عن وسيلة للتراجع عن الغزو الحالي للعراق بما يحفظ ماء الوجه الأمريكي في ظل خيارات ضئيلة جداً ومحدودة على أن تتراجع الولايات المتحدة خلال العقد القادم عن التدخل في الشئون العالمية كقوة حاسمة لتحافظ على مقدرتها وتمنع انزلاقها إلى الفناء .
وبعيدا عن تراجع الهيمنة الأمريكية عالميا .... يبقى السؤال كيف يمكن للولايات المتحدة أن تبتكر طريق التراجع بما يحفظ ماء وجهها لوقف الإضرار بالعالم وبنفسها .