سيرة ومسيرة ترصدها عربيات مع العالمة السعودية الشابة الدكتورة حياة سندي 1-2
تحت غلالة شفافة تنسدل على قطعة أثاث قديمة، كانت تختار الطفلة ذات السنوات الخمس أن تختبئ لتطلق العنان لخيالها... فترى نفسها تارة رائدة للفضاء، وأخرى عالمة و مخترعة شهيرة... وتقول: "كانت لعبتي المفضلة وخلوتي التي أحلق في سماءها لأتلمس حلمي البعيد، ثم أخرج منها لأسأل والدي هل الأبطال الذين حققوا كل هذه الإنجازات العلمية المبهرة استثناءات؟ هل هم مثلنا؟ وكيف أصبح مثلهم وأقدم إنجاز يخدم البشرية؟.... فكان يجيبني: بالعلم يا ابنتي يحقق الإنسان مايطمح إليه ويخلد اسمه في سجلات التاريخ " .
ومن تلك الإجابة عرفت الطفلة حياة سندي طريقها لتحقيق حلمها وبدأت تتأهب لخطوتها الأولى التي تصفها قائلة:
"أسعد أيام طفولتي كان يومي الدراسي الأول فبينما تصاحب دموع الخوف والرهبة الأطفال في ذلك اليوم، كانت السعادة تغمرني... واخترت أن أرتدي أجمل فساتيني بدلاً عن الزي المدرسي... كيف لا؟! وأنا أشعر أنني من هنا قد أصبح مثل الأبطال الذين عاشوا معي في خلوتي... الخوارزمي... الرازي... ابن الهيثم... ابن سيناء... الحازم... ماري كوري... أنشتاين... إسحاق نيوتن... جابر بن حيان .... الموسى، أخيراً سأسير على دربكم".
وتضيف: "اليوم أدرك معنى مقولة أن الخيال أهم من العلم فكل الإنجازات العلمية العظيمة بدأت بلحظات يمتزج فيها الخيال مع الواقع إلى أن تتبلور الفكرة ويتضح الهدف مع نضج الإنسان ومحاولته وإصراره " .
طفلة الأمس هي ضيفتنا اليوم في عربيات العالمة والباحثة السعودية الدكتورة حياة سليمان سندي التي تصحبنا معها في رحلة شيقة ومشوار طويل من الانجازات يختصر قصة قد نكتفي منها في نهايتها بصورة واحدة تشكل نموذجاً يحتذى به لصناعة العلماء .
ونعود مع ضيفتنا إلى مقاعد الدراسة في الابتدائية الثامنة بالرياض حيث كانت تختار أن تجلس في الصف الأول وتقول : "كنت متفوقة وأحب زميلاتي وأسعى إلى رفع تحصيلهن العلمي ولا أميل إلى تعريف شخصيتي بالقيادية ولكن بإمكاني أن أطلق عليها المسؤولية التي كانت تدفعني إلى أن لا استأثر بالعلم والتفوق وحدي فأنا لاأريد أن أرى إحدى زميلاتي متأخرة في تحصيلها... أردت أن نحصل جميعاً على درجات مرتفعة فكنت أساعدهن وأشركهن بمؤشرات حاستي السادسة التي طالما أرشدتني للتركيز على المعلومات المهمة التي أتوقع أن نجدها في ورقة الاختبار وبفضل الله لم تخذلني تلك الحاسة أبداً " .
وتضيف : "وأنا في الصف الأول الابتدائي كنت أتسلل إلى كتب شقيقتي في الصف السادس لأحاول فهم مسائلها وحفظ مقرراتها، فأتلقى العقاب على ذلك العبث بصدر رحب لأن شغفي بمسابقة الزمن كان يهزم خوفي من العقاب" .
سألتها، كيف نفتح أبواب الآفاق المغلقة أمام أطفالنا ونطلق هذا العنان لخيالهم حتى يوجههم منذ سن مبكرة ويحفز طموحهم كما حدث مع الطفلة حياة؟ .... فأجابت : "المفتاح بأيدينا، بالقراءة"... وتضيف: "كنت أعشق القراءة منذ أن تعلمتها وكان والدي يشجعني على ذلك فيضع أمامي الصحف والمجلات ويساعدني على قراءة الكتب وفك طلاسم القصص والروايات ولايمل من الأسئلة التي أطرحها عليه... من القراءة تشكلت أحلامي ومن إجابات والدي عرفت كيف أحولها لواقع غير بعيد " .
هل كانت الطفلة حياة تحظى بذات الاهتمام والمتابعة في الدراسة من قبل أسرتها؟ ... تقول: "لا على الإطلاق فلا أذكر أن أسرتي كانت تفرض علي متابعة لصيقة أثناء استذكاري لدروسي أو أدائي لواجباتي المدرسية بل كانوا يتركوا لي تحمل مسؤولية دراستي وهذا ما ساعدني دائماً على أن أشعر بالمسؤولية نحو كل مايتعلق بتحصيلي العلمي" .
واصلت المتفوقة حياة تفوقها إلى أن تخرجت من الثانوية العامة بمعدل مرتفع لتحدد خطوتها القادمة التي تقول عنها : "من تحصل على 98% من القسم العلمي بالمدرسة تتجه مباشرة إلى كلية الطب ولكني لم أتخلص من عادة التسلل إلى الكتب فعندما كنت في سنة أولى طب حصلت على كتب قريباتي في السنة الثالثة والرابعة لأجد هناك ضالتي، فقد عشقت من كتبهم (علم الأدوية) الذي شعرت أنه يقف وراء الاكتشافات التي تخدم الإنسانية ولسوء الحظ لم أجد بجامعاتنا قسم يختص بتدريس هذا العلم الذي ندرسه بشكل جزئي ضمن التخصصات الطبية للتعرف على الأدوية وتفاعلاتها وأعراضها الجانبية ... أما وقد اخترته كمجال تخصص، فلم يكن أمامي سوى إقناع أسرتي بالسفر لدراسته وقد استغرقت محاولات إقناعهم والترتيبات اللازمة للسفر عامين تقريباً اتجهت بعدها إلى لندن " .
بدأت رحلة الإغتراب بلا لغة ولاثروة.. ولكن الإرادة تحطم المستحيلات
الإنسان يتحكم في الظروف التي تحيط به وليس العكس
قالوا ستقع فريسة للمفاسد والمغريات فحفظت القرآن الكريم وحافظت على حجابي
وصلت حياة إلى لندن وهي تحمل في حقيبتها لغة انجليزية ضعيفة وخلفية علمية لا تؤهلها للقبول بأي جامعة، فكيف تغلبت على ذلك ؟ ... تجيب:
"كان لدي إصرار كبير على تجاوز كافة العقبات فبعد أن وضعت قدمي على الخطوة الأولى والوحيدة التي ستحتضن حلمي يستحيل أن أستسلم للفشل وأتراجع... كل المحبطات كانت تتضائل أمام إيماني بأنني أستطيع أن أتجاوزها لكن لم يصدقني أحد... قالوا مستحيل، وقلت لهم لا أعرف المستحيل مادمت حية أرزق ... أردت فرصة فقط، وعلمت أن علي أن أحصل على الثانوية البريطانية أولاً فتقدمت للتسجيل وقوبل طلبي بالرفض لضعف لغتي الإنجليزية لكن أمام إصراري ووعدي بأن أتكفل بتقوية لغتي تم قبولي وكنت أدرس يومياً مابين 18 إلى 20 ساعة في مرحلة لا أذكر خلالها أنني تمتعت بليلة واحدة من النوم العميق لفرط قلقي وخشيتي من الفشل... ونجحت في الاختبارات نجاح أهلني للحصول على قبول غير مشروط في جميع الجامعات التي تقدمت لها والتحقت بجامعة (كينجز كوليدج) " .
المحطة الثالثة من مشوار الدكتورة / حياة سندي تبرز فيها ملامح شخصيتها وتشهد بداية خطواتها نحو الابتكار العلمي، وتصفها بقولها
"كنت أمام تحديات عديدة على الصعيد الشخصي والعلمي فأما الشخصي فقد بدأت مواجهة الغربة التي تغلبت عليها بالاستئناس بكتاب الله و حفظت القرآن كاملاً خلال العام الأول من دراستي الجامعية لأجعله ربيع قلبي ولأثبت أيضاً لمن يتهم الفتاة المغتربة من أجل العلم بأنها ستقع فريسة للمغريات أنه مخطئ، فما يحول بيننا وبين ارتكاب الخطايا هو الخوف من الله وأنا أومن بأن الله موجود في كل مكان وأن شخصيتنا هي التي تتحكم بالظروف المحيطة بنا وليس العكس... وعلى الصعيد العلمي أتيحت لي في العام الثاني فرصة فريدة لتأسيس مختبر للأمراض الصدرية بتوجيه من الأميرة (آن) حيث وصلنا عقار جديد من ألمانيا وأجرينا عليه أبحاث وتجارب لفهم تركيبته وعمله في جسم الإنسان وحققنا إنجازاً علمياً بتقليص جرعته... لا أعتبر ذلك أول إنجازاتي في حقل العلوم فحسب، بل لقد كانت تلك التجربة وراء نقلة جديدة في حياتي".
التقنية الحيوية هي اليوم مفتاح النهضة العلمية والاقتصادية
تلك النقلة التي تحدثنا عنها الدكتورة حياة كانت بتحديدها لتخصص دراساتها في مجال ( التقنية الحيوية ) التي تبسط شرحها لنا قائلة :
"هذا العلم لو أردنا تبسيطه سنجد أنه يعود إلى 4000 سنة قبل الميلاد فاستخدام نوع من الخميرة للحصول على الخبز يعتبر ( تقنية حيوية ) وكذلك استخدام بعض أنواع البكتيريا لتحويل الحليب إلى منتجات ألبان وهذه المحاولات المتعددة قائمة بأشكال مختلفة منذ زمن بعيد... إنه ببساطة تسخير الكائنات المجهرية الدقيقة كالبكتيريا لفائدتنا، كما يتضمن أجهزة القياس والابتكارات التي تساعدنا على الاكتشاف وفهم العلوم واستيعابها فنفهم عن طريقها على سبيل المثال آلية عمل الدواء وأثره على الإنسان، و يخدم تطوير تلك الأجهزة الإنسان العادي فيوفر أجهزة قياس بسيطة للاستخدام المنزلي مثل جهاز قياس السكر في الدم والذي استغرق وصوله إلى هذه الدرجة من البساطة في الاستخدام 25 عام من الأبحاث " .... وتضيف : " التقنية الحيوية تخصص لا يدرس إلا كدراسات عليا لذلك اخترته في مرحلة الدكتوراه بعد أن حصلت على شهادتي الجامعية مع مرتبة الشرف من جامعة( كينجز كوليدج )... اخترته وأنا على يقين بأن من ينجح في التحكم بالتقنية الحيوية ينجح بالتحكم في العالم وتسخير موارده لحياة أفضل، فالتقنية الحيوية اليوم مفتاح النهضة العلمية والاقتصادية " .
وتنتقل " عربيات " مع الدكتورة حياة إلى المحطة الرابعة من مشوارها، وهي مرحلة الصراعات والانجازات خلال السنوات التحضيرية لرسالة الدكتوراه في جامعة ( كيمبردج ) والتي تصفها بقولها:
"(كيمبردج) عبارة عن خمس سنوات من الصراعات والتحديات التي بدأت من اليوم الأول، فبعد انتسابي لها كأول سعودية تحصل على منحة دراسية من جامعة ( كيمبردج ) لتحضير أطروحة الدكتوراه في مجال التقنية الحيوية، استقبلني أحد العلماء بصرخة مفزعة قائلاً (فاشلة ، فاشلة ، فاشلة ... مالم تتخلي عن حجابك ومظهرك وأؤكد لكِ بأنه خلال ثلاث أشهر فقط ستذوب شخصيتك في مجتمعنا وتصبحي مثلنا، فلابد من الفصل بين العلم والدين، ولنا تجارب سابقة مع إحدى المسلمات من شرق آسيا فقد تخلت عن الحجاب بعد فترة قصيرة)... عبارته أصابتني بالصدمة لكن لا أنكر أنه يتوجب عليه شكره، فالتحدي الذي خلقه بداخلي دفعني للإصرار على الالتزام بشكلي ومظهري وهويتي لأثبت له أن العلم لا يتعارض مطلقاً مع الدين الإسلامي، وخلال الثلاث أشهر الأولى تبدلت تلك العبارات الهجومية إلى احترام كبير من كافة منسوبي الجامعة حتى أنهم فيما بعد وخلال شهر رمضان كانوا يمتنعون عن تناول الطعام أمامي ويؤجل بعضهم وجبة الغداء إلى موعد إفطاري "... تكمل بابتسامة انتصار: "لقد ربحت الرهان مع ذلك العالم بفضل الله".
الشهر الرابع شهد تسجيل سبق جديدة للدكتورة حياة أترك لها الحديث عنه فتقول : "كنت أصغر طالبة ترسلها الجامعة بعد أربعة أشهر فقط من بدء الدراسة لحضور مؤتمر علمي، وللاستدراك لم ترسلني الجامعة من تلقاء نفسها"... تعجبت من الجملة الاستدراكية وسألتها كيف؟ فأجابت : "لكل طالبة في مرحلة الدكتوراه الحق بتقديم ورقة عمل في مؤتمر عالمي لتسجل لها في سيرتها الذاتية، وعادة ماتتكفل (كيمبردج) بذلك في العام الثالث أو قبيل مغادرة الطالب للجامعة حتى يكون مؤهلاً ولديه مايمكن تقديمه وتقديره في مؤتمر عالمي يمثل فيه الصرح العلمي المرموق (كيمبردج)، ولكن في الأشهر الأولى لي بالجامعة وتحديداً في عام 96م كنت أعمل على ابتكار جهاز لقياس أثر نوع من أنواع المبيدات الحشرية على الدماغ وحققت نتائج مبهرة دفعتني لتقديم بحثي لمؤتمر (جوردن) للبحوث في بوستن والذي يتناول الموجات الصوتية، وتم قبول بحثي فأبلغت الجامعة التي واجهت طلبي بالرفض لعدم استعدادها التكفل بتكاليف حضوري للمؤتمر في هذا الوقت المبكر... فسألتهم: ماذا لو كانت الجهة المنظمة على استعداد لتغطية التكاليف؟ هل تمانعون؟... علت وجوههم علامات الدهشة وأجابوا: بالتأكيد نبارك إذن ذهابك وتمثيلك للجامعة في هذا المؤتمر... وبالفعل ذهبت وكنت أصغر المشاركين، وحظيت ورقتي باهتمام وإعجاب بالغين من نخبة العلماء الذين تواجدوا في المؤتمر" .
نقلت معاناتي لوطني فحظيت برعاية كريمة من صاحب السمو الملكي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز لإتمام رسالة الدكتوراه
ذكرت أن تلك المرحلة كانت مرحلة التحديات والصعوبات فهل من مزيد؟
بالتأكيد، فالأسوأ على الإطلاق واجهته وأنا على مشارف الانتهاء من رسالة الدكتوراه، تبقى لي من منحة (كيمبردج) 9 أشهر فقط ووصلني خطاب من عميد الجامعة يفيد بضرورة تغيير بحثي والعمل على مشروع جديد!! لم يحمل الخطاب أي مبررات... فقط، علي أن أنجز مشروع دكتوراه جديد في 9 أشهر... بالتأكيد لست بحاجة هنا لأن أسهب في وصف وقع تلك المفاجأة التي كادت أن تعصف بكل آمالي وطموحاتي فبدأت أعمل من جديد على مدار الساعة لأسابق الزمن وخلال تلك الفترة ذاع صيت المجس متعدد الاستخدامات الذي ابتكرته فتلقيت دعوة في عام 99م من مستشفى السرطان بكندا لإجراء التجارب عليه وقضيت معهم شهر ثم عدت لإتمام الفصل الأخير من رسالة الدكتوراه ومجدداً تم إشعاري بمفاجأة أخرى مفزعة وهي انتهاء المنحة وكنت بحاجة لـ 7 أشهر إضافية على الأقل لأتمام رسالتي فبدأت أنقل معاناتي إلى المسؤولين في أرض الوطن حيث نشرت إحدى الصحف السعودية رسالتي... ولم يخب ظني في وطني، فبمجرد وصول الخبر لصاحب السمو الملكي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز حفظه الله استقبلت اتصالاً يفيد بتكفل الدولة بتغطية الفترة المتبقية من دراستي، ولا أستطيع أن أصف حتى اللحظة سعادتي وامتناني لتلك الرعاية الحانية والتوجيهات السريعة التي تؤكد حرص أولوياء الأمر على احتضان مسيرة أبناء وبنات الوطن العلمية، وقد حملتني تلك البادرة مسؤولية كبيرة لكي أثبت أنني أهلاً لتلك الثقة ولكي أسعى إلى الوفاء بالدين لوطني من خلال علمي وعملي".
بعد أربع ساعات من مناقشة رسالة الدكتوراة استمعت إلى أجمل تهنئة في حياتي: ((مبروك، لقد فتحتِ ياحياة نافذة جديدة للعلماء لفهم العلوم))
وقلت لنفسي: هذه هي بداية المشوار الحقيقي والعطاء
نود أن نعرف المزيد عن رسالة الدكتوراه، ماهو موضوعها أو عنوانها؟... تقول الدكتورة حياة:
"رسالة الدكتوراه كانت عبارة عن دراسات متقدمة في أدوات القياس الكهرومغناطيسية والصوتية وقد صنفها البروفيسور الذي ناقشها آنذاك بأنها خمس رسائل في رسالة لأنني ومن خلال تشعب دراساتي في مجالات علمية مختلفة تطرقت إلى تخصصات عديدة، وفي يوم المناقشة حضر البروفيسور يحمل معه الرسالة وبين صفحاتها قواطع عديدة، وقبل أن اسأله عنها بادرني بالسؤال: هل تعرفين يا حياة ما كل هذه القواطع التي أضعها بين صفحات رسالتك؟ أجبت: لا!! ... فقال : لقد التقيت بعدد من العلماء المختصين في كل مجال تطرقت إليه في رسالتك ومن نقاشي معهم وضعنا لكِ أسئلة دقيقة لتكشف لنا إجاباتك إذا ماكنتِ أنتِ فعلاً من كتب هذه الرسالة "... تكمل الدكتورة سندي حديثها عن جلسة المناقشة : "كان من المفترض أن تستغرق ساعة ونصف الساعة إلا أنها استغرقت أربع ساعات كاملة خرجت منها أترقب النتيجة والقلق يسكن كل ذرة في جسدي... لم أشعر بتلك الساعات الطويلة التي قضيتها في مناقشة الرسالة بقدر ماشعرت بطول الدقائق الخمس الفاصلة بين خروجي من القاعة وبين وصول كلمة (مبروك، لقد تم إجازة رسالتك) وقلدني البروفيسور وسام ثمين بكلمات التهنئة قائلاً : لقد فتحت يا حياة نافذة جديدة للعلماء لفهم العلوم".
وكيف كانت اللحظات التالية ؟
كانت عبارة عن شريط سريع من الأحداث مر بمخيلتي يحمل الكثير من الانكسارات والانتصارات، وقلت لنفسي هذه ليست النهاية يا حياة ولكنها البداية .
لازلت أتطلع إلى التقاط الصور من ذلك الشريط وقبل أن أتجاوز هذه المرحلة أتمنى أن أصحبك في رحلة إلى المريخ... ليس المريخ الكوكب بالطبع ولكن الاختراع الذي أطلقتي عليه اسم MARS فالصورة لابد وأنها في مخيلتك وننتظر نقلها إلينا مع التعليق.
حسناً، لابد أن أوضح أولاً أن اسم الاختراع أو الجهاز هو اختصار لـ Magnetic Acoustic Resonator Sensor وكما تلاحظين الأحرف الأولى من وصف الجهاز تشكل كلمة MARS أو كوكب المريخ وقد جاءت المصادفة لاحقاً بطلب استخدامه من قبل (ناسا)".
قاطعتها قائلة : فلنبدأ بالحديث عن الجهاز وسنتابع لاحقاً قصة (ناسا).
بالتأكيد، بإمكاني أن أقول أن (مارس) باستخداماته المتعددة هو خلاصة أبحاثي وتجاربي فكما أسلفت سبق لي العمل على أبحاث متعلقة بالتفاعلات الدوائية بداخل جسم الإنسان، كما عملت على مشاريع بحثية لحماية البيئة وقياس الغازات السامة، وعكفت طويلاً على دراسة شريحة الجينات والحمض النووي DNA والأمراض الوراثية... ووجدت من كل ذلك أن المجسات المتوفرة إما أنها معقدة للغاية وضخمة أو أنها تفتقد للدقة... فمثلاً المجسات الخاصة بالحمض النووي عند استخدامها لمعرفة ما إذا كانت الحالة تؤهلها جيناتها للإصابة بمرض السكري لاتتجاوز نسبة دقتها 25% ، فعملت أيضاً على اختراع مجس آخر لرفع هذه النسبة إلى 99،10%... وهذا مجرد مثال ينطبق بشكل أو بآخر على قياس الغازات وغير ذلك من الجزيئات الدقيقة التي يستعصي أو يصعب قياسها بدقة .
حسناً، وكيف أرادت (ناسا) أن تستفيد من هذا المجس؟
وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) ظلت تلاحقني ثلاث سنوات... قاطعتها، كيف تعرفت (ناسا) على الدكتورة حياة وMARS تحديداً.. أجابت : "عن طريق مشاركاتي في المؤتمرات الدولية، فالوكالة ترسل عادة علماء إلى هذه المؤتمرات دورهم البحث عن العقول والإنجازات التي قد تخدمهم في مجال عملهم... من هنا تمت دعوتي وقضيت معهم أسبوعين تلقيت بعدها عرضاً مغرياً للعمل معهم ولكني كنت آنذاك في السنة الثانية من الإعداد لأطروحة الدكتوراه فرفضت لرغبتي باستكمال دراستي في (كيمبردج)... كما أنني شعرت بأن التزامي مع (ناسا) يعني قطع خط العودة إلى وطني لأن الأبحاث هناك تستغرق سنوات طويلة كما أن الإمكانيات والتكنولوجيا المسخرة لخدمة البحث العلمي متقدمة جداً، ببساطة من يلتحق بـ (ناسا) يصعب أن يغادرها إلى أي مكان آخر".