من يكسب الرهان؟
تابعت مشاهد إخلاء المستوطنات وكلمات الدكتور إياد السراج رئيس مجلس أمناء برنامج غزة للصحة النفسية الذي التقيت به ذات حوار تتردد من حولي, إذ قال: (لا نريد رصاصاً يوحد صفوف العدو بالخوف ويوصم شعبنا بالعنف فنحن لن نستطيع تدمير إسرائيل بأسلحتنا التي يمكن لإسرائيل أن تصمد أمامها 100 عام لكنها لن تصمد أكثر من سنة في مواجهة حقيقية مع السلام لأن نسيج المجتمع الإسرائيلي متنافر وستظهر المشاكل حتماً عندما نرفع أيدينا عن توحيد صفه بأسلحتنا التي تضر بأوضاعنا وتزيدها سوءاً).. كان ذلك في عام 2001م إلا أنني رأيت التنافر الذي تحدث عنه للمرة الأولى خلال هذه الأحداث.. فالحقيقة أن الأمر لا يتعلق بالمشاهد التي عرضتها شاشات التلفزة فحسب لأن الأعماق تخفي الكثير من الحقائق لدولة قامت على ما تحسبه معتقداً دينياً سوقت بواسطته دعواتها للاحتلال فكانت تلك هي ذريعة الرعيل الأول من اليهود للهجرة إلى ما يسمى بأرض الميعاد... أما من جاؤوا بعدهم فقد كانوا حصيلة استقدام إسرائيل للمواطنين اليهود من مختلف أنحاء العالم بمغريات مختلفة أحدها فقط كان التلاعب على أوتار معاداة السامية وقلة استجابت له, أما الوسيلة الأخرى فقد كانت شراء المواطنين حيث قدمت عروض مالية على سبيل المثال ليهود الأرجنتين تقدر بحوالى 10 آلاف دولار لكل أسرة و5 آلاف دولار تقدمها الوكالة اليهودية بالإضافة إلى منح من الأراضي المسروقة (أبوبلاش كثّر منه) وتوفير الوظائف والتكفل بتكاليف الهجرة والتعليم والرعاية الطبية المجانية.. الأهم للحصول على الجنسية الإسرائيلية أن يقدم المحتل الجديد قسم الولاء للدولة فينطبق عليه المثل الشعبي (قالوا للحرامي احلف قال حصلت على الجنسية الإسرائيلية)... والمسألة لا تعدو عن كونها محاولات يائسة لاستقطاب مواطنين ليزداد التعداد السكاني لدولة زائفة ومواطنين مزيفين اكتشف بعضهم زيف الدعاية الإسرائيلية بعد هجرته إلى أرض الميعاد ولكن الويل لمن يحاول الخروج حيث تتم إعادته بالقوة وبتعاون الدول الأخرى بحجة أنه مدين للدولة العبرية بقروض.. هذا بالنسبة للمواطنين الذين يعتنقون اليهودية إلا أن التهجير لم يقتصر عليهم اعتقاداً من القيادة الإسرائيلية بأن الحاخامات بوسعهم تهويد أصحاب الديانات الأخرى لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن فيوجد من بين المهاجرين الروس فقط حوالى 300 ألف مسيحي رفضوا التنازل عن دياناتهم ويقيمون في إسرائيل... كما أشار تقرير نشرته صحيفة البيان الإماراتية في عام 2002م أن استطلاع للرأي نشر في (هآرتس) أعرب من خلاله 20% عن رغبتهم بمغادرة إسرائيل... كما أوضحت صحيفة (جروزاليم بوست) أن 35% من الإسرائيليين يرغبون في العودة إلى البلدان التي هاجروا منها و(الأوبزرفر) تقول أن 50% من يهود بريطانيا الذين هاجروا إلى إسرائيل يرغبون في العودة والاستقرار في المجتمع البريطاني, وكذلك 25% من اليهود الكنديين.
وفي استطلاع رأي آخر أجرته الوكالة اليهودية اتضح أن عدد اليهود العلمانيين الذين يهاجرون من إسرائيل آخذ في الارتفاع إذ أن واحداً من كل اثنين أجاب بأنه يفكر في ترك البلاد والهجرة إلى الغرب... ووفقاً لـ(البيان) الإماراتية حدث ما توقعه الجنرال ديجول أحد أصدقاء إسرائيل القائل: (إن المجتمع الإسرائيلي عدواني ودموي, وبسبب هذه السياسة والاستراتيجية سوف يندثر بمرور الزمن)... ومن محاضرة بمركز زايد للتنسيق الحضاري توقع الدكتور جورج جبور المستشار السابق للرئيس السوري زوال إسرائيل عام 2020 بناء على المعطيات الديمغرافية ذاتها. فوفق علم الاستعمار الاستيطاني على حد قوله يعد التفوق العددي للمستوطنين على السكان الأصليين أهم شروط نجاح الاستيطان ولذلك تفكك النظام العنصري في جنوب افريقيا وترتيبا على ذلك يقول دومينك فيدال في مقال بلوموند دبلوماتيك (في غياب دولة فلسطينية مستقلة وقابلة للحياة سوف تواجه إسرائيل التي تعرف نفسها بأنها دولة ديمقراطية) تناقضاً كبيراً, فإما أن تختار الديمقراطية سبيلاً وتمنح حق الاقتراع لجميع سكانها, ولن تعود عندها دولة يهودية, وإما أن تحاول المحافظة على طابعها اليهودي فتتخلى عن الديمقراطية). كما أظهر استطلاع حديث للرأي أن 54% من الإسرائيليين يعتقدون أن إخلاء المستوطنات سيساهم بصورة كبيرة في تعميق الانفصال داخل المجتمع الإسرائيلي, حيث 73% من الإسرائيليين يعتقدون أن إخلاء غزة سيساهم بصورة كبيرة في إحداث انقسام سياسي وعقائدي في المجتمع, مما حدا بعدد من المثقفين والسياسيين الإسرائيليين إلى الدعوة لاجتماعات طارئة في محاولة لرأب الصدع الذي إن اتسع فستتسع معه الفجوة بين الإسرائيليين.. وجميع الصراعات المتخفية في الجسد الإسرائيلي بوسعك أن تقرأها بوضوح من خلال التعليقات التي تمت إضافتها من القراء في مواقع الصحف الإسرائيلية منذ أن انطلقت عمليات إخلاء المستوطنات بين يهود متشددين وآخرين علمانيين في حين تتلاعب إسرائيل في الداخل بورقة المعتقدات الدينية وفي الخارج بورقة الديمقراطية وتقف على صفيح ساخن بعد أن جمعت الأنقاض في الحقبة الماضية ووحد الخوف من الجيران فيما بين مواطنيها.. هل ستدوم الألفة إذا تفرغوا لمشاكلهم الداخلية؟... أعتقد أنني وجيلي لم نشاهدهم وهم يسرقون لكننا قد نشاهدهم وهم يتحاسبون.
تحدٍ مشابه يواجه الفلسطينيين بعد إخلاء قطاع غزة فهناك من يراهن كذلك على الخلافات بين الفصائل الفلسطينية ويترقب العالم آلية الحكم الذي ستفرضه على القطاع.. فهل سينجح الفلسطينيون في إعمار القطاع وتوفير فرص الحياة والتعليم والعمل للمواطنين لتقوم دولة فلسطينية تمتلك كافة مقومات الحياة الكريمة لأفرادها، أم ستبقى واقعة تحت وطأة الخلافات والفقر؟... أحد التوقعات ستثبت المرحلة القادمة أهليته لكسب الرهان وأعتقد أن الدول العربية لابد أن يكون لها دور كبير في إعمار الأراضي الفلسطينية والإسهام في بناء الدولة الفلسطينية من جديد، فبعد طول عناء يحق لهذا الشعب أن يحيا كما يحيا غيره من شعوب الأرض.
[email protected]
المصدر: صحيفة عكاظ