الانعكاسات النفسية لصور ومشاهد سيول جدة على الأطفال
كما للصورة أكثر من زاوية رؤية فإن للأحداث ردود أفعال مختلفة، ومن بين التفسيرات السلبية والايجابية تظهر الاستنتاجات، ولعل أحداث السيول التي أصابت جدة أثارت الجدل حول أمور عديدة منها الجانب النفسي وانقسام الآراء حول عرض صور ومشاهد السيول التي جرفت البشر والحجر والسيارات. فبين من يرى ضرورة التوقف عن عرض المشاهد الأليمة وحجبها عن الأطفال، ومن يرى فائدة عرضها لتدعيم الشخصية وتأهيلها لتحمل الصعوبات والمتغيرات، توقفت "عربيات" مع رأي علم النفس وتجارب واقعية للأمهات مع أبنائهن.
الإحساس بالآخرين وتقدير النعم
في البداية ترى السيدة منى الشوا (ربة منزل) أنه من المهم مشاركة أطفالها الذين تجاوزوا العاشرة في مشاهدة هذه الصور مع تقديم الشرح الكافي، ومحاولة استغلال الحدث لتوجيه تصرفاتهم بصورة صحيحة، قائلة: "أؤيد حجب المشاهد المؤلمة عن الأطفال دون العاشرة، لكن فيما عدا ذلك من الجيد عرض المشاهد والأحداث على الأطفال لاستخلاص العبر منها. فقبل حادثة سيول جدة اعتدت على مناقشة ابنتي (12 سنة) في الأمور التي تجعلها تشعر بالنعم المحيطة بها وضرورة مراعاة الآخرين وتعزيز قيمة العطاء في نفسها بزيارة الأسر الفقيرة ومد يد العون لهم، الأمرالذي رفع من وعيها بواجبها تجاه المجتمع، أما عندما عايشنا أحداث سيول جدة فوجدتها فرصة لربط القيم بالواقع وبالعمل فحرصت على أن تشاهد تفاصيل الأحداث وتتعرف على ما أصاب الأسر المتضررة وتشعر بمصابهم وفي نفس الوقت تشكر الله على أن هيأ لها ظروف أفضل يجب أن تحسن توظيفها وتجزل العطاء للآخرين حتى لاتزول النعم، ولا أنكر أن التغيير لا يأتي سريعاً ولكن تدريجياً أتوقع أن تتغير متطلباتها أو تتقلص بالشكل المطلوب بعد أن تكونت لديها فكرة عامة عن صعوبات الحياة".
أعزلهم عن الألم لحماية عواطفهم
وتختلف معها أم أحمد (ربة منزل) حيث تعتقد أن المشاهد المأساوية التي انتشرت خصوصاً على الإنترنت عن سيول جدة من الواجب فلترتها وحجبها عن الأطفال حتى لا تترك آثار نفسية سلبية، وتقول: "الحياة كفيلة مستقبلا بما فيها من صعوبات لتصقل الشخصية في الوقت المناسب، فلاداعي لاستعجال تعريض الأطفال لهذه المآسي، وقد يرى البعض أنني بهذا التوجه أعزل أبنائي عن الواقع لكني على قناعة بأن لكل مرحلة عمرية قدرات معينة لايجب تجاوزها، لذلك أنا ضد فكرة تعليم الأطفال بالمشاهد المؤلمة، ومع مشاركتهم في الأعمال التطوعية إذا كانت ظروف السلامة والإشراف الدقيق مهيئة".
الاضطرابات النفسية مصدرها البيت، واستخدمت الصور لتعليم أبنائي أهمية اتقان العمل
السيدة رولا دشيشة (مصممة أزياء) تشدد على أهمية عدم عزل الأطفال عن الواقع وتبرر ذلك، قائلة: "غالباً لا يتأثر الطفل بشكل سلبي من القصص والصور المؤلمة ولا تسبب له الخوف والفزع إلا إذا كان في الأساس يعاني من عدم الاستقرار النفسي أو التفكك الأسري أو مشاكل أخرى صاحبت نشأته، فما يحصل عندها أن أي سبب إضافي خارجي مهما كان بسيطاً يجعل الأعراض الكامنة تظهر على الطفل بشكل مرضي، أما الأطفال الذين يشعرون بالاستقرار في حياتهم ليس من السهل أن تضطرب نفسياتهم بمجرد التعرض لمشاهد معاناة الآخرين"، وتضيف: "شاهد أطفالي بعض الصور لجريان السيل لكن الأهم أنني حرصت على عرض صورة عليهم هي صورة النفق الذي يسلكونه للوصول إلى مدرستهم كل يوم وقد غرق تماماً بالسيل وكان الهدف أن أوضح لهم أن هذا النفق قد تضرر بسبب أشخاص لم يتقنوا عملهم فكادوا أن يتسببوا بموت وأذى الآخرين نتيجة تهاونهم في العمل".
مع عرض الصور، وضد تكرارها حتى لاتؤدي إلى التبلد
وللسيدة غادة المشهدي (مصرفية) هدف أخر بالإضافة إلى تعزيز بعض الصفات باستغلال مثل هذه المشاهد فهي ترى أن ما حدث في جدة يعد حدثاً عاماً لا يمكن تجاهل عرضه على الأطفال ولو من قبيل الثقافة العامة، فلقد حرصت على أن يشارك ابنها في الأعمال التطوعية لمساعدة المتضررين، وتقول: "لم أتعرض في حديثي مع ابني تجاه هذه الأحداث عن الخطأ ومن تسبب فيه أو عن الفساد الذي أدى إلى هذه المأساة، فأنا بطبعي لا أحب التركيز على الأمور السلبية، لذلك اتجه تركيزي على الجوانب الإنسانية وكيفية تنمية الحس الإنساني والجانب الخيري وتزويده بمعلومات عن مدينته التي يسكنها، وكنت حريصة كذلك على التوازن فلم أعرض عليه صور الموت واكتفيت ببعض المشاهد دون تكرارها حتى لا تؤدي بمشاعره إلى التبلد".
وتضيف: "يحتاج الأطفال إلى وقت أطول وتبسيط في المناقشة، وأن تكون بصورة توعية بالمخاطر لتشكيل الوعي مبكراً، فعلى سبيل المثال أخبرت ابني أن ما حدث ليس بالضرورة أن يتكرر، كما قمت بتنبيهه على ضرورة أن يسعى الإنسان إلى السكن في مكان آمن حتى لايتعرض لهذا الخطر إذا اختار السكن في مكان منخفض ليتعلم أن الإنسان يجب أن يتحمل مسؤولية اختياره، بالإضافة إلى تزويده ببعض تعليمات الإسعافات الأولية التي تساعده على أن يشعر بالأمان".
عرض الصور لمناقشة ردود الأفعال، والمدرسة شاركت بفعالية
السيدة نجلاء سليمان (ربة منزل) شاركت بتجربتها مع ابنها الذي يبلغ من العمر 10 سنوات ويدرس في مدرسة أجنبية بجدة، قائلة: "عرضت على ابني جميع الصور تقريباً، فعلى سبيل المثال لأنه مولع بحب السيارات عرضت عليه صور السيارات التي جرفها السيل ليشعر بحجم الخسارة، وصور المنازل المتضررة بعد السيل فلمست أنه شعر معها بحزن إيجابي دفعه إلى أن يسألني أين ذهب أهلها وإن كان بإمكانه أن يحصل على مال ليتبرع به لهم". وتضيف: "الجميل بعد ذلك أنه في أول أيام الدراسة طلبت المدرسة من كل طالب أن يكتب موضوع عن الأمطار والسيول التي أصابت جدة يعبر من خلاله عن مشاعره السلبية والإيجابية وعن إمتنانه إلى الله كونه لم يصاب منها بضرر، وواجبه تجاه المتضررين وتجاه المحتاجين من الآن فصاعداً حيث اختار أن يجعل لهم نصيب من ملابسه ومصروفه بشكل دائم، وهذا أمر يحسب للمدرسة فلابد أن ندرك أنه في هذا الزمن لم يعد بالإمكان عزل الأطفال عن مايجري حولهم والمدارس في الخارج تتعامل مع مثل هذه الأمور بواقعية حتى في أحداث الحروب وغيرها حيث تعرف الأطفال بما يجري وتساعدهم على التعبير عن مشاعرهم وتناقشهم فيها تلافياً لأن تترسب بداخلهم المخاوف والأسئلة دون توجيه أو إجابات".
العزل مستحيل، والمبالغة خطيرة
وللطب النفسي رأي حيث يؤكد استشاري العلاج النفسي بمستشفي الأمل الدكتور أيمن عرقسوسي على أن فرص عزل أخبار ومشاهد المشكلات التي تأتي بصفة مفاجأة وبصورة كارثة يعلم عنها الجميع غير ممكنة على الإطلاق، لذا على المجتمع بمؤسساته الفكرية والتربوية المختلفة تدعيم المعتقد الصحيح في نفس الإنسان منذ الصغر، موضحا: "إذا كان المعتقد السائد بأن سند الإنسان في الحياة هو المال أو الأب أو الأم أو المنزل فحتما سيصبح لدى هذا الإنسان طفلا كان أو بالغاً مشكلة في حال افتقاد أحد هؤلاء وقد يشعر بأن الحياة لم يعد لها معنى إذا فقد عامودها وسندها الحقيقي، لذا علينا أن نركز على أن السند الحقيقي لنا في هذه الحياة هو الله عز وجل الذي وإن فقدنا منازلنا وأبنائنا أو آبائنا سيظل موجوداً لا نفقده مهما تبدلت الظروف. ولبناء شخصية الطفل وتأهيله على تحمل المسؤولية ومواجهة الصدمات لا بد من تعزيز إيمانه بالسند الحقيقي". موضحاً أن المجتمعات الإسلامية تظل أكثر قدرة على تجاوز الكارثة بسبب الأساس الديني والإيمان بأن الله قادر على مساعدتنا لتجاوز الأزمات والكوارث.
ويشير الدكتور عرقسوسي إلى أهمية التوضيح للأبناء بأن الحياة لها ظروف متغيرة، قائلاً: "لا أرى خطأ في مسألة عرض مشاهد وصور السيل وماخلفته على الأطفال مع تقديم شرح وتوضيح وتفسير، لكن دون تعريضهم لصور القتلى والجرحى أو مشاهد العنف، ودون المبالغة بل يمكن الاكتفاء بجرعات بسيطة حتى لا نفقد السيطرة على نفسياتهم وردود أفعالهم إذا ماواجهوا حوادث مشابهة، فالغرض من عرض الصور هو تأهيل الطفل نفسياً للمواجهة لا للخوف".
معلقا على اختلاف تفسير السيدات للأحداث بين ترسيخ مبدأ الحفاظ على النعمة والشعور بالآخرين والإتقان في العمل، بقوله: "لا بد أن نقف مع المتضررين كما نقف مع أهلنا تماما آيا من كان وراء هذا الخطأ يجب أن نتكاتف أمام الأزمات، فالطفل عندما يدرك أننا نعاني جميعا -باختلاف أجناسنا وألواننا- من ذات الخطر وأننا أخوة جميعا في الإنسانية نتبادل العطاء لنجد الأجر عند الله يشعر بأن الله معه وأنه بمساندته للمتضررين يقوم بواجب إنساني ونتيح له فرصة الحياة في جو نفسي آمن".
وحول وجهة نظر البعض في ضرورة عزل الأبناء عن الأحداث المؤلمة، يقول: "هم اختاروا جزء من سياسة تربوية و نفسية يستند على عليها بعض علماء النفس، فمن حقهم حماية أولادهم لكن عليهم في نفس الوقت تجهيزهم لمواجهة الأزمات، فهذه السياسة التربوية تنصح بأن يكون مع الحماية تجهيز وتحصين للطفل بطرق علمية حتى لا ينهار أثناء حدوث الأزمات المفاجئة".
التحصين النفسي يشبه التطعيم ضد المرض
وفي السياق نفسه يوضح أن التحصين النفسي يمكن تشبيهه بالتطعيم الذي نحقن به الطفل تحصينا له من المرض، وهذا التطعيم ما هو في واقع الأمر إلا فايروس بسيط للحماية، والأمر ينطبق على مشاهدة الطفل لبعض هذه المشاهد الأليمة ليتمكن من استيعابها ويملك وسائل تعينه على التغلب عليها إذا واجهها.
ونصح الدكتور أيمن عرقسوسي في ختام حديثة بالحرص على بناء المعتقد الصحيح السليم للأطفال ليتكيفوا مع المتغيرات ويؤمنوا بأن السند الثابت هو الله.
تربية الأطفال يجب ان لاترتكز على طرق بدائية
بينما أبدى الدكتور محمد عبد الله شاووش استشاري الطب النفسي ونائب رئيس الجمعية السعودية للطب النفسي، والرئيس المكلف للفريق النفسي الذي تم تشكيله لمعالجة الانعكاسات النفسية لسيول جدة تحفظه على إعادة بث وسائل الإعلام للمشاهد والصور المؤلمة عن السيول في مرحلة ما بعد الصدمة معتبراً أن الهدف الرئيسي من النشر قد تحقق بتحريك المسئولين للتعامل مع المشكلة، وقائلاً: "الأشخاص الذين يشاهدون هذه المناظر عبر الوسائل المرئية معرضين للإصابة بقلق ما بعد الصدمة أو ما يسمي بـ(لدونة الدماغ) أو تلف وموت بعض الخلايا العصبية بسبب التعرض إلى المناظر المؤلمة، وجميع سكان جدة انتابتهم مخاوف بشأن الأمطار والسيول مما قد ينتج عنه أعراض نفسية تختلف حدة خطورتها".
كما استنكر ما تقوم به بعض الأسر بتعريض أبنائها عمداً لهذه المشاهد بقصد التأثير عليهم أو إشعارهم بحجم النعمة التي يعيشونها قياساً بمعاناة غيرهم، قائلا: "نصيحتي للأسر عدم اللجوء إلى تعريض أبنائهم لهذه المشاهد بغيه التأثير عليهم أو تعليمهم كيفيه حمد الله على النعم، فهذه المشاهد يتم تخزينها في العقل الباطن ومن الممكن أن تخرج في الوقت الراهن أو مستقبلا كسلوك نفسي سلبي، ومن الحصافة والذكاء والحكمة أن يتم التعامل مع الأطفال دون الاستعانة بهذه الطرق البدائية التي قد تؤدي إلى أضرار نفسية".
واستعرض مع "عربيات" بعض الحالات التي تم معالجتها، قائلاً: "لاحظ الفريق النفسي انتشار حالات الكرب الحاد وتوتر نفسي شديد وقلق واضطراب مع شعور بالغضب والاستياء لدى المتضررين، بالإضافة إلى التحفز والشعور بالذنب، وتحفز هذه الأعراض الجهاز العصبي "السمبتاوي" مما ينتج عنه جفاف في الحلق وزيادة معدل ضربات القلب".
ويوضح الشاووش أن الأعراض ستستمر لفترة من الزمن وينحصر التدخل الطبي على تخفيف حالات التوتر الشديد واضطرابات النوم من خلال المهدئات واستخدام مضادات الاكتئاب منعاً للمضاعفات المستقبلية، مستعرضا أساليب الفريق في العلاج من خلال التدعيم النفسي بأساليبه المختلفة والعلاج النفسي والمعرفي، بالإضافة إلى استخدام جلسات العلاج الجماعي، مؤكداً أن لكل حالة أسلوب علاج يختلف عن غيرها وفقا للعمر وخبرة الشخص وخلفيته.
هذا وقد أكد الدكتور شاووش على أهمية متابعة الحالات بعد شهر من حدوث الكارثة لمواجهة (قلق ما بعد الصدمة)، قائلاً: "هناك مجموعة أعراض لا تظهر إلا بعد مرور شهر من الكارثة حيث قد يعيش البعض الحدث من جديد، ويرى نفس المشاهد المفزعة للكارثة بالإضافة إلى الأحلام المفزعة التي تنتابه، وقد يظهر على البعض الآخر ما يسمى بـ(التجنب) والذي يعني عدم قدرة الفرد الذهاب إلى نفس المكان الذي عاش فيه الحدث، وعدم تحمل مشاهدة البرامج التي لها علاقة بالحدث، إلى جانب أعراض الاكتئاب النفسي الحاد مصحوباً بآلام مزمنة غير مبررة طبياً مع الشعور بالذنب واضطراب بالنوم، ويستخدم في هذه المرحلة أسلوب علاجي من خلال الجلسات النفسية المكثفة والعقاقير ليستعيد المريض توازنه النفسي والانفعالي، ومساعدته على استحضار الجوانب النفسية والتجارب الايجابية".
أشار الدكتور شاووش إلى أن العمل تم بمشاركة 49 متطوعاً ومتطوعة مابين أطباء نفسيين وأخصائيين نفسيين وتم تقسيم المجموعة إلى خمس فرق ميدانية، فريقان للحالات العاجلة يتواجدوا مع الدفاع المدني والمركز الصحي في السامر وحي السليمانية، وفريق يتبع للمراكز الصحية مسئول عن استقبال الحالات التي تصل من قبل المجموعات التطوعية أو وسائل الإعلام المختلفة، وفريق يقوم بزيارة الحالات في شقق الإيواء التي تم نقل المتضررين إليها للوقوف على حالتهم، مؤكدا على أن الحالات التي تم الكشف عنها شملت مختلف الشرائح العمرية لعمومية الحدث، وموضحاً أن عدد الأطفال والسيدات كان أكبر مقارنة بالرجال، ومستعرضا الأشكال السلوكية التي ظهرت على الأطفال وتنوعت بين الخوف الشديد والرهبة من مغادرة المنزل أو ترك الوالدين أو أحدهما، ومخاوف تتعلق برفض الذهاب إلى المدرسة والخوف من الاستحمام والرعد والمطر، وعن علاج الأطفال، يقول: "نقوم بتأهيل الأطفال في الغالب عبر الوسائل الترفيهية والجلسات العلاجية، وفي الحالات الشديدة نلجأ إلى استخدام العقاقير".
الجدير بالذكر أن الدكتور شاووش توقع ازدياد المشاكل النفسية الناتجة عن الأزمة في المستقبل القريب مع حاجة المسعفين والمتطوعين الذين تعرضوا لمناظر الدمار والخراب إلى تأهيل نفسي.