ورقة بيضاء... لولا!!
عبثت يدها بالورقة الصفراء التي كانت ذات يوم بيضاء ، اقتطعها سامح على عجل من دفتر محاضراته ، ووضع فيها رقم هاتف بخط مهزوز ، اعطاها لها و قال و هو يصيح فيسمعه كل فرد كان حولهم :
- ستجدينني دوما على هذا الرقم .. سأنتظر مكالمتك .. أحبك يا سمر …
كم مر من أعوام منذ ذلك اليوم .. كم من احداث تطاولت و امتدت على مساحة الدقائق و الساعات فيها .. كيف احتفظت طيلة هذا العمر بالوريقة الحمقاء ، و كيف صحبتها داخل كيسها الزهري الصغير على كل أرض شاء لها الله أن تعيش فوقها ؟
تطلعت بعيون فارغة الى انعكاس صورتها على زجاج يغلف صورة زوجها ..
شكل هلامي لها بدا غريبا في الزجاج المصقول ، وشعرات متناثرة يعبث بها هواء التكييف البارد فيصنع من ملامحها المنعكسة شبحا غريبا يسكنه الهم ..
عادت تتطلع في الورقة الصفراء في يدها .. توجهت الى المرآة ..
- انت يا سمر جميلة .. ومزيج العسل و الفستق في عيونك يحمل التماعة التحدي و شقاوة حب الحياة ..
تعبيرات مرحة كان يحلو لسامح وصفها بها ، فكانت تبتسم و تبحث لنظراتها الخجلى على مرمى بعيد ..
في لحظات كان القرار ..
لم تفكر كثيرا فيما ورائه ، لحظات حاسمة قد تمنح حياتها بعض اللون فلم التردد ؟
هاتفته ..
صوته الندي عبر ملايين الثواني التي فصلتهما ذات يوم و اخترق سمعها و نفد الى قلبها .. صاح :
- سمر ؟! غير معقول !! هل هذا حلم ؟
لفتها نشوة المغامرة ، حاولت ان تصبغ صوتها بالمرح القديم ، قالت بحماس حاولت ان تكتم به دقات قلب يتعثر في ذنبه :
- كيف حالك يا سامح ؟ كيف أنت يا ولد ؟
و تدفقت العبارات ، حارة مفعمة بالشجن ، مفعمة بالود ، طالت المكالمة ، ازدانت حواشيها بعبارات موشاة قديمة يفوح منها عطر السنين التي لا تعود .. و بتواطئ غير منطوق لم يسألها عن ظروفها الراهنة و ابتعدت هي عن هذا السؤال ، كلاهما كان يريد استرجاع احساس قديم ، بعيد ، لا علاقة له بواقع يعيشان فيه ..
فجأة قال :
- سمر .. أريد أن أراك ..
و فجأة اجابت :
- سامح اريد أن اراك ..
لم يحددا موعدا و لا مكانا فهناك موعد قديم كان ذات يوم مضروبا بينهما يحمل الساعة و المكان ، و مازال عالقا بينهما لم تطمسه السنين ، همس فقط :
- اليوم ؟
أومأت رأسها ايجابا و كأنه يراها .. اعترتها حمرة الخجل القديم .. فلم تقو على اضافة كلمة .. تكفل قلبها بدقاته المتسارعة بوصف الموقف و تكفلت زينتها و لباسها المتأنق بوضع العنوان النهائي للحظة القادمة ..
لم تفكر طويلا و هي تغلق باب شقتها ورائها ..
كانت تسكت صوتا محتجا كلما خرج من الحنايا ..
دقات كعبها العالي على الارض القاسية كانت تقدم لها مع كل خطوة اصرارا جديدا على الوصول ..
على تحقيق أمنية ظلت تراودها سنينا طوال ..
كلما شقت عليها الحياة ، او خرجت مع زوجها عن مفهوم المودة و الرحمة ، كلما واجهت مشكلة ، و كلما حنت اضلعها لكلمة حب رقيقة ..
كم مرة تصفحت الورقة التي كانت بيضاء ، كم مرة روادتها نفسها عن اتصال هاتفي يمنح حياتها بعض اللون ..
عضت شفتها السفلى و قالت :
- كم تأخرت ..
قبل ساعات خرج زوجها من البيت بعد أن صفق الباب بوجهها .. ترك صوته العالي و نبراته الخشنة عالقة في هواء البيت ، قابعة على صدرها تستنهض فيها التمرد و الرفض ، انتقاداته الدائمة لها تصيبها بالجنون ..
- لا يعجبه شئ مما اعمل ، كل ما اقوله خطأ و كل ما افعله يستوجب اللوم .. الاخريات دائما في نظره الاجمل و الارق و الاجدر بالحياة المطمئنة ..
قبل يومين عنف صديقه لانه قسا على زوجته التي لم تعد تعد الطعام كما يحب ، قال له : هي عاملة و من حقها عليك ان تساعدها و ترحم حالها لا ان تقسو عليها ، صالحهما و علق و هما ينصرفان : " عظيمة هذه المرأة .. زوجها لا يشعر بقيمتها " ..
صرخ داخلها السؤال :
- و انا ؟؟؟؟
لمعت عيناها به فقال و هو يلوي وجهه عنها :
- آمل ان يكون الطعام على ما احب .. لقد بت تقصرين كثيرا و حجتك دائما العمل .. لن احتمل هذا طويلا ..
دقات كعبها العالي مازالت تستجدي من الطريق الصمود ..
تمنحها قوة على ما تريد :
- بعض اللون لحياتي .. ما الضير ..؟
ثلاثة من الابناء يسحبون بساط العمرمن تحت قدميها ، يتناوبون على امتصاصها و يمحون بكل قواهم الضعيفة أي معنى للراحة ، و أي فرصة لاستنشاق الحياة مجددا .. يتضافرون مع ابيهم على قلب سكينتها و شغل كل دقيقة في يومها ..
- و لا شئ يعجبهم ..
عاملة و زوجة و أم ، و الجميع يطالبها ، لا احد يرحمها ، العمل يريد منتهى الدقة و النشاط ، الزوج يريد منتهى العطاء و الخدمة و الرعاية و التدليل ، و الابناء يريدون منتهى المنتهى في كل شئ .. يريدونها الحكم في المنازعات و المعلم قبل الامتحانات و الطاهية الماهرة ، و الخادمة المدربة .. الجميع يريد .. لم يسألها أحدهم يوما عما تريد .. لم يلتفت بعضهم يوما الى ظهر يكاد التعب ان يقصمه ، و رأس يوشك الصداع ان يفلقه ، لم يلتفتوا الى وجه متعب يريد بعض الاهتمام ، و شعر مشعث يحتاج الى التهذيب .. و في العيد حين يعودون آخر الليل محملين بالهدايا الكثيرة دائما تكون العلب فارغة من هدية لها ، تسقط من حساباتهم كأنها صفر على يسار العدد المكتمل ..
تلفتت حولها ، الشمس الهاربة في الافق البعيد تلوح لها باشعتها الباردة مودعة ، و التفاصيل حولها تختفي …
ليس في الطريق تراب …
و ليس في الوجوه تعب …
كل شئ جميل …
ستارة الغروب المخملية اضفت على الكون الجمال ..
ابتسمت لها ممتنة ، ففي هذه العتمة الدافئة ستضيع من ملامحها كل اكدار السنين ، لن يرى سامح البثور الصغيرة تحت ذقنها ، و لن يلاحظ امتلاء قوامها بعض الشئ ، و لن يرى بكل تأكيد ندب الحروق و الجروح الصغيرة على معصمها و ظهر كفها ..
علامات اعتادت ان تسجلها السنين على وجهها و جسدها كما اعتادت هي على وضع علامات الطول لصغارها على حائط شرفتها الكبيرة ..
دقات كعبها العالي باتت اكثر وضوحا و المكان يقترب منها ، غزاها احساس بأن عشرات العيون تراقبها ، تلومها ..
الشباب يصفرون و الشيوخ يهزون رؤوسهم البيضاء استنكارا ، و هذه المرأة التي تبيع الزهور على باب المكان لاتدعوها للشراء بنظراتها الفضولية ، و لكنها تبحث في ثناياها عن قصة مثيرة تحكيها لجاراتها حين تعود ..
قبضت على حقيبتها السوداء بكل قوتها و همست بتصميم :
- لن اتراجع ..
خطت عتبة المكان القديم ..
- يا الله شد ما تغير …
طاولاته كالحة لا يمكن لعينيها المدربتين أن تغفل تقشر طلاءها تحت المفارش الزاهية ، اشجاره لم تعد باسقة كما كانت زمان ، الرياح الخفيفة تصفع الاغصان الهرمة فتنضو في كل صفعة بعض الاوراق عنها ، تطير في الفضاء القريب و تسقط تحت الاقدام العابرة فتسمع لخطوهم عليها صوت تكسراتها .. تنهدت :
- هو الخريف اذن ..
وقفت في الممشى القديم ، في نهايته انعطافة حادة تنتهي بطاولة مثبتة في الارض الصلبة و حولها مقعدان .. دقيقة واحدة و تكون عندها ، طاولتهما الاثيرة ..
- ترى هل وصل قبلي كعادته في الايام السالفة ؟
في نهاية الممشى وقفت تتطلع الى الطاولة ، كانت اكبر حجما و عائلة من خمسة افراد يتحلقون حولها ، كانوا يأكلون المثلجات و يتصايحون و حوار عاصف يدور بين الزوج و زوجته حملت الرياح اليها بعضا منه ، اشاحت بوجهها و تطلعت حولها ، من اقصى الممر كان سامح يعدو نحوها ، لابد أنه سامح .. الملامح تشبهه .. لولا ..
- سمر .. تأخرت عليك ؟
وقفت واجمة .. حتى الصوت صوته .. لولا ..
تطلع اليها و في عينيه ابتسامة حنون و قال و هو يمد يده ليلمس يدها :
- لم تتغيري مازلت جميلة ..
اقتطع كلمته .. لم يتحدث عن التماعة التحدي و شقاوة حب الحياة ، اتراه نسي أم أن عينيه تحملان بدورهما كلمة واحدة علقها الهواء الدافئ كتعويذة بينهما فحواها " لولا.."
سحبت يدها بسرعة ، تلفتت حولها فتلفت بدوره و همس :
- المكان مزدحم .. هل نخرج ؟ اعرف مكانا اجمل ..
رنت بعيونها الى طاولتهما الاثيرة ، تطلع نحوها بدوره .. لم يعلق ، عاد فمد يده يلمس يدها قال :
- هيا يا سمر ، اعرف مكانا جميلا هادئا ..
تطلعت اليه ، كان وجهه خاليا من التعبيرالمرتقب ، لهفة اللقيا المتوقعة لم تكن الا رغبة جارفة تهدر في عينيه و تترجمها لمساته الباردة ، رغبة في امرأة .. أي امرأة .. و هي امرأة و تعرف كيف تفسر النظرات .. سحبت يدها بحزم و سارا معا باتجاه الباب .. كانا صامتين .. ارادت ان تقطع الصمت فقالت بصوت خافت لا يشبه صوتها :
- هل تزوجت ؟
لم يتطلع نحوها و اكتفى بمد يده للمس يدها و قال و هي تبعد يدها عنه :
- امرأة عادية .. بلا روح .. تتقن فن الانجاب و ترتيب البيت و الصراخ على الاطفال و الشكوى من الحياة ..
ارتجف داخلها الغضب ، فسأل و هو يعاود المحاولة :
- و أنت ؟
سحبت يدها و قالت :
- لدي ثلاثة اطفال و زوج ..
قطعت عبارتها ، فجأة شعرت بأن حياتها كنز ليس من حق هذا الرجل أن يعرف مكنوناته .. تنهدت و قالت :
- عادي ..
قال بعبارات لزجة عبرت سمعها و التصقت بشحمة أذنيها كالدودة :
- لابد أنك مثلي تشعرين بالحنين للماضي الجميل .. حاضرنا لم ينجح ابدا في تقديم البديل .. لم اقابل في حياتي امرأة مثلك ، أنت عظيمة يا سمر .. لم ادرك هذا الا حين تزوجت بتلك ..
تطلعت اليه ، كان داخلها يفور ، تمثلت فيه زوجها ، كانت الكلمات التي نطقها قبل قليل تشبه كلمات زوجها .. كلمات لامرأة اخرى ، امرأة غريبة ، لكنها دوما الاجمل و الارق و الاعظم ..
مد خطواته ليلحق بها ، قال و هو يحاول لمس اناملها : " هل ستأتين ؟ اعرف مكانا خاصا " ..
توقفت فجأة ، كزت على شفتها السفلى ، شعرت بالهدير داخلها في الانفاس الحارة الخارجة من انفها ، نقلت الحقيبة في اليد الأخرى و رفعت كفها بسرعة و صفعته ..
قبل أن يدرك ما حدث أو يتخلص من ذهوله ، كانت قد وصلت الى باب المكان .. اوقفت سيارة أجرة ، ركبتها و تطلعت بغضب الى رجل مذهول احتل خده الكريه جيش من النمل مكان أصابعها ، و عندما سألها السائق عن وجهتها قالت و كأنه يعرف :
- الى بيتي ..
في اللحظة التالية طارت ورقة كانت بيضاء من نافذة السيارة ، حملتها الرياح مع اوراق الشجر المتطاير و ألقت بها تحت أقدام رجل لم يعط لحياتها بعض اللون ..
تمت
سحر الرملاوي
[email protected]