خطوط الحلم
ها هي الآلة الصغيرة تنفض عن نفسها غفوتها المملة و تبدأ في تجميع لون أحمر في أفق نافذتها الوحيدة ، حركة صغيرة سلحفائية تقتحم كل مجال رؤيتي و تستأثر بتعاريج عقلي المشحون ، لو فقط تسرعين أيتها الآلة العزيزة ، لو فقط ترسمين الخطوط المرجوة دون إبطاء ، لا بأس بدقيقة انتظار أخرى ، فما أطول ما انتظرت ، و ما أمر ما تجرعت ، و هل هناك ما هو أمر من الصبر …؟
العلبة السوداء ، هذه العلبة الكئيبة التي تشبه التابوت الصغير ، تشهد على مر صبري بما تحويه من آلات اختبار منزلية و معملية تحمل خطا أحمر واحدا يعلن فشلا ، دائما فشل ، خطا واحدا يتجمع كل مرة من عصارة صبري و يرسم نفسه أمامي خطا فوق أحلامي ، و جدارا أمام أمومتي …
اليوم سينتهي كل هذا ، اليوم سوف أفرغ العلبة من شواهد الفشل و أبطنها بالمخمل الأبيض و أضع الاختبار الجديد الذي يحمل الخطين الأحمرين فيها ، خطان تحت أحلامي و ليس فوقها ، يؤكدان للعالم أن الأمومة اختراع يبدأ بحلم ، يعقبه صبر ، و ينتهي بطفل ..
أنا لا يعنيني إن كان مولودي الأول ذكرا أو أنثى ، المهم أن يأتي فقط ، المهم أن يأتي …
منذ شهر اعتدت على الاستلقاء على فراشي آخر الليل و قد هدأ طنين الكون من حولي إلا من صوت رتيب يخرج من تنفس زوجي النائم بجواري ، أمد يدي بهدوء أتحسس بطني ، اكتم أنفاسي حتى أصل إلى المكان الذي يقبع فيه جنيني ، أضع يدي عليه و أسمع بها دقات قلبه ، لقد رأيت صورا عديدة للأجنة في بطون الأمهات على شاشة التلفاز و في المجلات الملونة و أعرف أن في أحشائي الآن جنينا يحمل رأسا كبيرا و ملامح جسدية هلامية التكوين ، شفافة تظهر قلبا نابضا لونه أحمر ، كلون الخطوط التي انتظر ، اكتم أنفاسي لئلا تختلط بصوت أنفاسه ، أريد أن اسمع دقات قلبه وحدها ، و اسمعها ، و يطير قلبي فرحا ، و اضحك على نفسي حين تعتريني بعض الشفقة على هذا المسجون داخلي ، و أتتساءل متعجبة ، كيف يحتمل هذا الصغير رقاده الطويل داخل أحشائي في مساحة محدودة جدا ؟!!
ثم أعود فاتهم نفسي بالجنون ، فهذه حكمة الخالق ، رباط خفي من أسمى أنواع العواطف يخلقه الله رويدا رويدا داخل أحشائي ، رباط لا انفصام له ابد الدهر يستمر في التجدل تسعة أشهر ليخرج بعدها الوليد مربوطا حتى اعمق أعماقه بأمه …
ما زالت الأله تستجمع قوتها و تستقبل ساكنة الصخب القادم ، لقد بدأ الخط الأول في الظهور ، مازال لونه باهتا بعض الشيء لكنه سيتحول إلى الدكنة بينما يستجمع الخط الثاني شتاته القهري و يشد نفسه من عتمة عشرة أعوام من الانتظار ليسجل بصمته الأخير و يعلن رسميا بدء أمومتي ..
آه أيها الابن الحبيب ، كم انتظرتك ، و كم تناوبت الصبر مع الليالي الطوال ، أنت صغير جدا لتعرف كم أن الصبر مر ، و الانتظار صعب …
أيها الصغير القادم الذي أخبئ له أجمل المشاعر و أحلاها ، أيها الصغير الغالي الذي أعددت له أرجوحة من أوردتي و فراشا في حبة القلب ، هل تعلم كم طبيبا راجعت ، و حجم دموع سكبت ، و كمية أدوية تجرعت ، هل شعرت بأمك في الليالي تلبس ثوب الصلاة و تتوجه إلى خالقها تدعوه ذرية صالحة تقر بها عينها ، هل سمعت نحيبي و أنا أدعوك لتأتي فتنير ظلمة أمومتي الموحشة ، هل شاهدتني يوما أعض وسادتي كيلا يسمع أبوك نشيجي فيسخر من حنيني إليك و يدعي لا مبالاته …؟
والدك أيضا يحبك أيها القادم من رحم الغيب ، اعرف انه ينتظرك و يتمناك ، أرى لهفته في كل طفل يقبله ، و أراها حين يجلس بجوار مثل هذه الألة في انتظار قرارها في كل شهر ، و اسمعها في تنهده حين يفرض الخط الواحد نفسه على الألة و يأبى الآخر أن يجيء ، إنه أيضا يحبك ، انه أيضا ينتظرك ، و لسوف نتصارع على حبك و ستحبنا كلينا أليس كذلك ؟
هيا أيتها الألة انطقي ، ارسمي الخط الثاني ، أنا أكيدة أنه هناك ، أنا أكيدة أنه قادم ، ما بال الوقت يستحيل دهرا ، هيا أعلني الخبر الأكيد الذي انتظر …
- ماذا تفعلين ؟
- طاهر ؟ لماذا جئت ؟ كنت سأدعوك بعد لحظات لتشهد الإعلان الذي لطالما انتظرناه ..
- ما هذا ؟ فحص حمل مجددا .. ألم أحذرك من استخدامه ؟
- و لكن هذه المرة …
قاطعني و هجم على الألة الصماء ثائرا ، حملها بغضب و طوح بها في أقصى الشارع
صحت :
- لا .. لا تفعل .. لقد أوشك الخط الثاني على الظهور ، لماذا فعلت ، لماذا ؟
أجهشت بالبكاء ، مال علي ، احتضنني و قال :
- حين يريد الله ، سيجيء الطفل …
كنت ابكي على كتفه بينما الساعة تدق دقتها الواحدة ..
دائما واحدة …
تمت
سحر الرملاوي
[email protected]