حياة سندي
(فاشلة، فاشلة، فاشلة..) طلقة ثلاثية طائشة وجهها عالم الرياضيات (ستيف هوبكنز) إلى العالمة السعودية الشابة الدكتورة (حياة سندي) وهي تخطو أولى خطواتها في جامعة (كيمبردج) البريطانية للتحضير لأطروحة الدكتوراه في (التقنية الحيوية) كأول سعودية تحصل بجدارتها وتفوقها على منحة من الجامعة المرموقة, مراهناً على أنه خلال ثلاثة أشهر ستذوب شخصيتها في مجتمعنا وتصبح مثلنا.. نحن لنا تجارب سابقة, وبدلاً من أن تصيب الطلقة الثلاثية أحلام الفتاة الشابة بمقتل, تحولت بداخلها إلى تحدٍ وجسارة وإصرار على النجاح, فربحت الرهان. وفي الأشهر الأولى كانت تستعد لتمثيل جامعة (كيمبردج) في مؤتمر دولي لتقديم أحد إنجازاتها العلمية, كما كانت قد أتمت حفظ القرآن الكريم كاملاً وازدادت إصراراً على الالتزام بحجابها وهويتها لتثبت عملياً بأن التحصيل والإنجاز العلمي لا يتعارضان مطلقاً مع الإسلام.
نعرف عن الدكتورة حياة بعض الإنجازات العلمية ولعل أهمها اختراعها الفريد للمجس MARS متعدد الاستخدامات, كما تلقت عروضاً للعمل مع وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) وأخرى مع الحكومة البريطانية ومع وزارة الصحة الكندية والكثير غيرها, إلا أننا لا نعرف إلا القليل عن (حياة) الإنسانة والعالمة. فكيف حققت فتاة سعودية مسلمة انجازات أذهلت العالم وهي في العشرينات من عمرها, كيف نشأت وتكونت تلك الشخصية, وكيف عانت لتحقق هذا النجاح, وكيف احتملت الانكسارات وانتشت بالانتصارات? أسئلة كثيرة علينا أن نُوجهها لأنفسنا ولها, ليس من باب الفضول ولكن لنكشف (سر صناعة العلماء).
ولابد أن أعترف أن لقائي بها قد حذف من قاموسي كلمة كريهة نستخدمها لإحباط الطموحات تُسمى (المستحيلات). لقد حطمت (حياة) المستحيلات, فغادرتنا بطموحها لدراسة تخصص لا يتوفر بجامعاتنا دون أن تحمل في حقيبتها لغة تؤهلها للقبول بالجامعات البريطانية, وتجاوزت تلك العقبة بالإرادة فأجادت اللغة في زمن قياسي وحصلت على قبول غير مشروط من جميع الجامعات البريطانية التي تقدمت لها لتلتحق بجامعة (كينجز كوليدج) لدراسة علم الأدوية, ولم تحمل في حقيبة اغترابها ثروة فعملت منذ اليوم الأول لالتحاقها بالجامعة لتشارك والدها في تغطية تكاليف دراستها الباهظة, وعانت من أصحاب قاعدة (الحكم المسبق). فهذا يقول ستضيع الفتاة وتجرفها المغريات والمفاسد في رحلة الاغتراب, وذاك يُريد لشخصيتها وهويتها الذوبان حتى يمنحها حقها بفرصة نجاح, ولكنها قلبت مقاييس هذا وذاك, ولو سألتها كيف, تجيب إجابة الأسوياء وتؤكد بأن من يعتقد أن معاول الإحباط التي قد تقابله بإمكانها أن تهدم طموحه فهو شخص غير مؤهل لتحقيق نجاح, ومن يعتقد بأن المكان والظروف والمجتمع المحيط به ستسوقه للضياع وتفرض عليه تقديم التنازلات فهو ضعيف، لأن الإنسان بمبادئه وشخصيته يتحكم بالعالم من حوله وليس العكس.
لقد نجحت حياة سندي بتحقيق التوازن لمعادلة صعبة تكسر معطياتها قناعات الكثيرين هنا وهناك. وستذكر (كيمبردج) شابة سعودية مرت بها وفتحت نافذة جديدة للعلماء لفهم العلوم كما سيذكر (معهد دراسات الشرق الأوسط) التابع لجامعة لندن عالمة سعودية شابة مرت به وفتحت الأبواب لأبناء وبنات الوطن ليحصلوا على فرصة كافية ومتكافئة مع غيرهم قبل أن ترفض أوراقهم بحكم مسبق. تلك (الشهادات) ليست من تحليلاتي فالأولى كانت على لسان البروفيسور الذي أجاز رسالة الدكتوراه لعالمتنا, والثانية كانت لعميد (معهد دراسات الشرق الأوسط) الذي قطع على نفسه ذلك الوعد بعد استماعه لكلمة وتجربة الدكتورة حياة في مؤتمر (المرأة الخليجية) بلندن وسنذكرها هنا بالتأكيد ونشيد بها كعالمة شقت طريقها بين الصخور وأحسنت تمثيل وطنها في محافل دولية, وسنحتفي بكل فخر واعتزاز بها وبغيرها من علمائنا الذين بزغ نجمهم في الخارج. ولكن حتما لا نريد أن نكتفي بهذا القدر, ولا نود أن نراقب عقولنا المهاجرة ونلوح لها فقط من بعيد, بينما تقطف الدول التي احتضنتهم ثمرة إنجازاتهم وترتقي درجات النهضة العلمية. فقد آن الأوان لاحتضان هؤلاء وإيجاد بيئة خصبة لصناعة العلماء وإنتاج العقول في مدارسنا وجامعاتنا حتى تخرج الانجازات من معاملنا ويجتمع فخرنا واحتفاؤنا بها مع حصدنا لثمارها.
* رئيسة تحرير مجلة (عربيات) الإلكترونية
[email protected]
المصدر: صحيفة عكاظ