لم تعايش النكبة بسبب صغر سنك ولكنهم قالوا وكتبوا عنها: عاد الفلسطينيون إلى قراهم " من تمكن من زيارتها"، ليجدوا قرى مدمرة…تاه الكثير عن بيته، وجدوا بيوتا مسوية بالتراب…حزنا كثيرا على ما قرأنا وسمعنا، ولكننا قلنا في أنفسنا:" لماذا يصر الإنسان العربي دائما على المبالغة، هل معقول أن حجم الدمار هذا بالفعل حدث…أم أن ما تحتويه الكتب ما هي الا شطحات كاتب جال بخياله طويلا ليقف في النهاية إلى حجم المبالغة هذه…
وبعد أربعة وخمسين عاما يقدم المجرم صك اعتراف منه على مصداقية أجدادك… خراب جديد ولا يمكنك أن تقول انه مختلف…فأنت عشت الان وسمعت عما عاشوه في الماضي وكما يقولون" الشوف مش مثل السمع"…
فلعل بساطة وصف أجدادنا لم يكن كافيا لنقل ما كان … لا تدري…فالواقع الذي تراه في مدينتك بعد كل أيام الاجتياح لا يمكن أن يكون طبيعيا أو بسيطا…تقف عند دمار المكان طويلا، تفكر ذاكرتي قد خانتني، فليس المكان الذي قصدته هو الذي وجدته، تحاول إعادة النظر من جديد… هذا هو الشارع بعينه، ولكن لا شئ مما كان هناك !!!…وتكتشف من جديد انه نفس المكان….تفرك عيناك وتتهمهما هما بالخيانة…. ولكن لا جديد فالدمار هو الدمار …ولا يبقى أمامك إلا أن تصدق أن المكان تحول إلى خراب… فحدود المبالغة العربية وقفت أخيرا عند أول حد من حدود واقعية الحدث الفلسطيني….
تقف لتفكر ثانية ما الذي عليك فعله … هل تقوم بعملك كصحافي…وتكون كمن يعيش على مصائب الناس…أو الوطن…. أم تكتفي بالتقاط الصور….أو تسجل شهادات الأهالي…. أم تكتفي بترك نفسك إلى كل مشاعر الحقد التي تشعر بها لتقدم ما عليها من قربان إلى تلك المدينة التي تنتمي أليها وتشرع بالبكاء…..وتكتشف انك لا تستطيع إلا أن تدع هذه البدايات تمضي طواعية إلى نهايتها علك تجد ولو على الورق نهاية واحدة للبدايات الفلسطينية ….بداية حكايات الفزع والرعب الفلسطيني…الكل يبدأ حكايات الشعب الفلسطيني ولكن لا أحد يجد النهاية…
ولا تزال تبحث عن نهاية….
الحاجة ( أم ذياب السوالمة ) من مخيم بلاطة كانت تحدث الصحافيين عما حدث في 1948، حين هجرت من قريتها "عرب السوالمة ولم تكن تتجاوز العشر سنوات، يقصدونا في ذكرى النكبة لتحدثهم: خرجنا خوفا من أن نتعرض لما تعرض له غيرنا من القرى … هجرنا الخوف يا بنتي….قالتها وهي تتحدث في سنة من الثلاث والخمسين الماضية سنوات ذكرى النكبة الفلسطينية والتي أوصلتها إلى هنا إلى هذا المكان في مخيم بلاطة/شرق مدينة نابلس، لتعيش فيه على أمل العودة إلى هناك يوما لم تتصور إنها ستتحدث عن خروج أو نكبة أخرى وتكون نكبة الخروج الشتات…:" خرجنا من بيوتنا بعد أن دخلتها الصواريخ فلم تعد تتسع لنا ولها….
و"هكذا، من جديد، تبدأ قضيتنا على المكان… لنا إشكالية دائمة مع المكان منذ 1948"، فتلك الحاجة خرجت من بيتها الأصلي في يوم من الأيام فقط خوفا مما سمعت… واليوم لم يخرجها منها الا صواريخ مرت فوق رأسها حفظها منها الله وحده….لا تدرك كيف يتمسك المرء برمز تشرده…بعدما خرج من وطنه… هل كان هذا البيت في المخيم مهما اكثر من أرضها في تلك الأيام أم أنها تحتفظ بما بقي لها دليلا على تشردها عن بلادها ؟؟؟؟ تعود تتساءل لتخلص في النهاية الى ان لا يمكن للفلسطيني أن يخضع لمنطق أبدا فتقاطع حكايته لا تسير وفق قانون أبدا...
رائحة الموت …تلاحقك
ففي البيت المكون من ثلاث غرف في المخيم اجتمع 101 من اللاجئين ليحتموا من أزيز الرصاص الموت ولكن عبثا، تقول أم ذياب :"كنا نجلس في بيتنا مع شقيق زوجي وعائلته فسمعنا صوت ورصاص صراخ في بيت جيراننا " صالح سوالمة"، فقد كان يطلقون النار عليهم حتى اجتمعوا الكل في" الحمام"… ولكن ذلك لم ينجيهم فطلبوا من الجنود أن يسمحوا لهم بمغادرة البيت الذي بدأ بالاحتراق وبالفعل سمحوا لهم بعد أن أجبروهم على خلع ملابسهم خرجوا من بيتهم توجهوا إلى بيتنا، فتحنا لهم البيت وقمنا بإعطائهم ملابس ليستروا أنفسهم، في هذا الوقت كانت عائلة اخرى من جيراننا "إبراهيم قنديل" قد احتمت عندنا بسبب قصف بيتها ، وعائلة القمحاوي، وعائلة درويش سوالمة وأولاده وأحفاده وابنتهم وأولادها وأولادي وأحفادي…حتى اجتمعنا بالضبط "101" في البيت، وقبل أن يجلسوا فأذا بالصاروخ من فوق رأسي يدخل البيت ليأخذ معه نصف وجهة "أم عاصم" زوجة إبراهيم قنديل، والتي كانت هذه اول مرة نراها فيها ويستقر على الحائط….
بدأ الأطفال بالصراخ ولم نعد نرى بعضنا الكل مغطى بالغبار المتطاير وبدأ القصف من جديد وقالوا اخرجوا من المنزل…. خرجنا لا نعرف الى اين الكل يتفقد الأخر وينسى نفسه… وأصبح الدم هو اللون السائد….
يتابع صالح سوالمة حديث زوجة خاله ليقول:" هربنا من بيتنا علنا نجد الأمان فلحقت بنا الصواريخ البيوت أخذت تقصف الواحد تلو الأخر …بحثت حولي فأذ بابنتي " 10 سنوات " وجهها ملطخ بالدماء وأنا لا اعرف ما الذي علي فعله… لم يكن يوجد معنا سوى قطعة قماش صغيرة أخذت امسح الدم عن وجه من حولي، عندما طلبوا منا الخروج لم يكن حولنا من ملاذ سوى غرفة صغيرة يستعملها الجيران لتربية المواشي وكانت فاحتمينا فيها بعد أن تركنا الشهيدة في ساحة المنزل…وبعد ذلك توجهنا إلى بيتنا ولم نكد نجلس حتى سمعنا سماعة تطلب منا ان نخرج جميعا الى الشارع الرئيسي" شارع القدس"، خرجنا والدنيا تمطر بغزارة والأطفال يبكون ويصيحون ونحن نمشي فوق الشوك وسط الظلام والبرد….ويتابع:" جمعوا الرجال وسمحوا للنساء بعد فترة طويلة بالرجوع إلى أحد البيوت ……
ولم تكن ميسون سوالمة احسن حالا من البقية فقد كانت على موعد مع الألم المزدوج فقد أحست بألم الوضع وهي على التلة تحت المطر … ومن حسن حظها أن البيت القريب كانت تسكنه قابلة …فكانت ولادة على أزيز الرصاص.
زيارة أولى …واخيرة…
ابو عاصم إبراهيم قنديل، زوج الشهيدة كاملة يحدث قصة زيارة زوجته الاولى والأخيرة لمنزل السوالمة وكيف استقر بها الحال لتفارق الحياة شهيدة هناك:"بدأنا نسمع أصواتا مختلفة من بعيد تنادي بالخروج من المنزل …لم يعرف أحدا أي من المنازل هو المقصود، ثم صاروا ينادون بأوصاف عامة على المنزل …"اخرجوا من المنزل الأبيض…"معظم المنازل هنا لونها ابيض" المنزل المكون من طابقين " معظم المنازل طابقين …لم يكن أمامي أنا وعائلتي سوى الخروج من المنزل لأن الجنود اخذوا يهددون بالقصف …وان من لا يستجيب سيخرج من المنزل أشلاء…
ويتابع :"خرجت ومعي زوجتي أم عاصم وابني عاصم 12 سنة وابنتي مزن 10سنوات من المنزل،ففوجئنا بدبابة واخذ الرصاص ينهمر علينا من جميع الجهات. عدنا مسرعين إلى البيت، وقمنا بتجاوز سور يفصلنا عن بيت جيراننا وهربنا إلى بيتهم بينما كان الرصاص يلاحقنا…شعرنا وقتها انه من سابع المستحيلات أن نبقى أحياء …
عندما وصلنا إلى هذا البيت كان القصف لا زال مستمرا والخوف والهلع يسيطر على السكان الذين كان بينهم حوالي60 طفلا …" ويتابع :"بينما كنا نرتب بعضنا شعرنا بان المنزل طار بنا واخذ الزجاج يتطاير في كل مكان ، وبعد نصف دقيقة قاموا بضرب صاروخ آخر وتبعه بعد قليل صاروخ ثالث …"كان الجميع يصرخ وساد الدخان والغبار المكان ولم يستطع أحد أن يميز سوى الدماء التي انتشرت في كل مكان من المنزل…الجميع اعتقد أن مجزرة قد حصلت وان كل من في المنزل قتلوا … حاول الناس الخروج والبعض إنقاذ الأطفال أخذت بالبحث عن عائلتي رايت عاصم وكان مصابا والدماء تغطي جسده … ثم كانت هناك امرأة مضرجة في بركة من الدم لم اعرفها … قمت بإبعاد عاصم وإخراجه ثم رحت ابحث عن زوجتي، لكنني صدمت حين تمعنت جيدا في المرأة التي لم تكن سوى أم عاصم زوجتي،حاولت إسعافها،لكنني اكتشفت أن إصابتها خطيرة جدا، رأيت الجزء اليسار من وجهها وقد تهشم بينما هناك تهتك في الدماغ وإصابة في البطن، أخذت أم عاصم تحاول الحديث، طلبت منها أن تتشهد وقالتها بكلمات ثقيلة … ثم أخذت تومئ لي وعرفت أنها توصيني بالأولاد…
بقيت وحدي معها وقمت بتغطيتها، وجلست بجانبها ورحت أسجد لله، وأقرأ القرآن بعد قليل جاء عدد من الجنود المدججين وكانوا 22تقريبا، طلبوا مني الابتعاد والذهاب من المكان رفضت تركها وحيدة معهم، وراحوا يهددونني بإطلاق النار وقتلي أخبرتهم أنني لن أتركها، قاموا بالوقوف صفا وابتعدوا أمتارا عني وأخذوا يصيحون أنهم سيطلقون النار علي وعلى الجثة، ورحت حيينها أصرخ وأقول لهم" إنها ميتة اقتلوني أنا ولا تطلقوا عليها الرصاص"…ردوا بأن الطبيب هو الذي يقرر ذلك.
بعدها قاموا بسحبي رغما عني وذهبوا بي إلى " اللّمة" أي المكان الذي جمعوا به الشباب وكانوا وقتها قد جردونا من ملابسنا، وكانت منازلنا في أسفل التل التي نقف عليها تحترق أمام أعيننا بسبب القصف الشديد وانفجار أنابيب الغاز فيها دون أن نستطيع فعل أي شيء سوى المشاهدة، وفي هذا الوقت رأيتهم يحملون زوجتي على حمالة، وأردت اللحاق بهم لكنهم منعوني من مرافقتها…
يضيف أبو عاصم لم يسمحوا للأطفال في ظل كل هذه الظروف ان يروا أمهم طوال هذا الوقت فكلنا كنا ندرك أن حالتها خطيرة جدا، " فدولة إسرائيل لا تسمح لك بالاقتراب حتى لوداع أمك شهيدة"…
في اليوم التالي يقول أبو عاصم:" وصلتنا أخبارا عن طريق الارتباط مفادها أن زوجتي موجودة في مستشفى بلنسون في الداخل… وقمت بالاتصال بأولاد عم لي يعملون في الطيبة بالمثلث لمتابعة الموضوع هناك، وقد بادروا بالاتصال بالمستشفى ولكنهم أخبروهم أن حالتها مستقرة وإصابتها عادية وليست خطيرة، وعندما توجهوا للمستشفى تفاجئوا أن أم عاصم في حالة موت سريري تنتظر رفع الأجهزة عنها كي تفارق الحياة.
بعد وصول خبر استشهاد زوجته، كانت معاناة احضار الجثة اكبر… إذ تخلت ما يسمى بنجمة داود الحمراء عن قضية إحضارها إلى المخيم لدفنها وفكرنا في دفنها في مدينة الطيبة بالمثلث وبالفعل شرع أبناء عمي في إعداد ذلك ولكن استطاعت فرقة من إسعاف الخدمات الإسلامية في كفر قاسم القيام بمهمة إحضارها إلى نابلس التي بدت ككابوس لا نهاية…
يتابع:" تم توقيف الجثمان على حاجز زعترة من الساعة الثانية بعد الظهر وحتى العاشرة ليلا ولم يسمح للصليب الأحمر بتسلمه، وعندما علمت أخت زوجتي التي تسكن قرية حوارة بالأمر طلبت منا أن تراها ولو للحظات عند مرورها من القرية على الرغم من منع التجول، ولكن بسبب استحالة إدخالها إلى نابلس قررنا وضعها في بيت أختها حتى يتسلمها الصليب في اليوم الثاني، وظلت كذلك حتى قررنا دفنها في حوارة وبالفعل تم حفر القبر وإعدادها للدفن وعندها وصل الصليب الأحمر وسمح له بتسلم الجثة".
صغار أم كبار؟؟!!
وبعيدا عن حديث الكبار يأتي حديث الصغار الكبار أيضا …طفل المخيم … قال له الأب اللاجئ كي لا ينسى:" يا بني تذكر! والدي تذكر هنا صلب الإنجليز باك على شوك صبارة ليلتين، ولم يعترف أبدا، سوف تكبر يا ابني وتروي لمن يرثون بنادقهم سيرة الدم فوق الحديد"، لم يكن يعلم ان الحكاية الفلسطينية تتكرر دائما وان ابنه سيصلب في شتاته على شوك صباره أيضا…
مجموعة من الأطفال تقريبا عشرة برز من بينهم طفلا يدعى "محمد" ليقول: هل أريك بيتنا؟ انه قريب…طاوعته دون أفكر كثيرا …قال بعدما وصلنا إلى أثار البيت الذي أشار أليه والذي كان واضحا عليه أثار الحرق هنا بيتنا عندما بدأ بالاشتعال بسبب الصاروخ التي دخلت خرجنا إلى منزل جيراننا خرجنا حفاه والبرد شديد… سألته لما لم ترتدي حذاؤك…رمقني بنظرة استهجان قائلا:" يعنى البيت بينحرق وأنا بدي أفكر شو رح البس برجلي"…لم تعد الكلمات صالحة لأي رد فصمت… ورحت اسمعهم يتحدثون:" أريد أن أسألك سؤال هذه السيدة التي استشهدت في البيت ما ذنبها هل كانت تحارب أم أنها تطلق عليهم الرصاص؟ وما ذنبنا نحن الأطفال أن نخرج في البرد والمطر، الحارة كلها لم تخرج منها رصاصة واحدة؟ سأل أحدهم …وأضاف الأخر:" لا يكفي انهم اخذوا أرضنا في فلسطيني 48 هل سيسرقون منا ارض تشردنا؟ قاطعتهم أخرى :" أنا لم أخف إلا على جدتي عندما رأت الشهيدة فقد كان وجهها ملطخا بالدماء….وقال آخر كان همهم قتل اكبر عدد ممكن من الناس فهم يريدون قتل كل لاجئ لانه دليلا على همجيتهم!!"
وسمعت صغيرة تقول لي:" أنا ما خفت بس الدخان لم يجعلني أرى أين أمي فبكيت"…طفلة في السادسة تحاول تبرير بكائها والصواريخ فوق رأسها!!! لا اعرف لعل شجاعة أقرانها أخجلتها لتقول لي هذه الكلمات؟…أم أن أحدهم نعتتها بالجبانة؟ لا ادري…..
كلمات كثيرة وتداخلات كبيرة وصغيرة في نفس الوقت …شعرت بالتفاهة عندما حاولت في البداية أن أتحدث إليهم بلغة مبسطة فهم يدركون الكثير الكثير ولعله يفوق إدراكي فهم أصحاب التجربة رغم صغر سنهم… فمحاذاة الموت تعطيك الحكمة…أحيانا.