لسنوات مضت لم يكن مصطلح " الحريك" بالمألوف بالنسبة لأذن المواطن المغربي، لكنه أصبح الآن مصطلحا دارجا و متداولا في الشارع، و " الحريك" هي كلمة باللهجة المغربية تعني " الهجرة السرية" ، و تنطق هذه الكلمة بتغليظ الكاف ، و هي تعني أن صاحبها " يحرق" كل المراحل و ربما كل أوراق هويته، متجها نحو أوروبا عن طريق سبل عدة ، ليس الاختباء في مقطورة شاحنة أولها و لا آخرها.
لكن ، متى بدأت هذه الظاهرة في الاستفحال بالمجتمع المغربي " و لماذا في هذه الفترة بالضبط؟
لا يمكننا - مهما حاولنا - أن نذكر تاريخا محددا لهذه البداية، لكننا نستطيع أن نقول - بثقة - أن أوائل التسعينات كانت فترة البداية ، خصوصا بعد القولة الشهيرة ل" فيليبي غونزاليس " رئيس وزراء إسبانيا الأسبق: " لو كنت مواطنا من دول الجنوب، لغامرت أكثر من مرةحتى الوصول إلى أوروبا" و لا أحد يستطيع أن ينكر ما كان لهذا القول وقتها من تأثير على الشباب المغربي ، و الإفريقي على وجه العموم.
خاصة بعد أن فرضت دول الاتحاد الأوروبي وقتها التأشيرة، بعدما كان بإمكان كل مغربي السفر إلى هناك بجواز السفر فقط.
و لكن، لا يمكن اعتبار فرض التأشيرة سببا أوليا للهجرة السرية حتى بفرض أن " كل ممنوع مرغوب" ، فلا أحد يلقي بنفسه في عرض البحر معرضا حياته للخطر، فقط من أجل كسر القوانين.
إذن لماذا يهاجر هؤلاء تاركين وراءهم أحبابهم و أهلهم و بلدهم أيضا؟ تقول الإحصائيات أن البطالة ارتفعت بشكل تصاعدي منذ منتصف الثمانينات بالمغرب . مجازون، دكاترة، مهندسون .. كل هؤلاء لم تعد تشفع لهم شهاداتهم للحصول على عمل، و بدأت الآفاق تضيق يوما عن يوم حنى لتكاد تنغلق، و الآلف من خريجي الجامعات يقارعون البطالة و يرون أن السنوات التي أمضوها في الدراسة لم تنجح سوى في إعطائهم لقب "معطل". و يرون - بعين الألم - من كتب لهم و سافروا إلى أوروبا يعودون بسيارات من أحدث طراز و هواتف محمولة ثمينة.
ترى ، ماذا سيكون شعور شخص يعيش هذا الواقع بشكل يومي ، يقول سعيد . خ ، معطل في الرابعة و الثلاثين من عمره : " إنه اليأس ، أشعر بالاختناق حقا. تصور أنني أخجل من دخول البيت كي لا أنظر في عيون والديّ اللذين كانا يتمنيان بأن أصبح موظفا أو أستاذا ،و كانا يعتمدان عليّ في المساعدة في مصروف البيت الذي يتكون من ستة أفراد. كل الأحلام تبخرت ، الأعوام تمر و لا انفراج في الأفق، و لو وجدت فرصة للهجرة لما ترددت و لا لحظة واحدة ، و أيا كانت الوسيلة".
ما ذكره سعيد هو ما يعانيه أغلب المعطلين بالمغرب ، و أنت تسألهم " لماذا تغادرون بلدكم، أليست أولى بكم ؟" يفحمونك بإجاباتهم " و ما الذي سنفعله هنا؟" لا إجابات طبعا.
هذا من جهة، من جهة أخرى يمكن أن نقول أن للإعلام تأثيره الذي لا يمكن إغفاله حيث يظهر أوروبا على أنها جنة النعيم التي تمطر الأموال مدرارا.
الجالية المغربية بالخارج تكرس هذه الفكرة أيضا ، و ذلك عندما يعود العمال المهاجرون بالخارج و آثار النعمة بادية عليهم. لكن أي ملاحظ جيد يمكن أن يدرك ، دون كبير عناء، أن الظروف قاسية هناك و أن تلك السيارات و كل ما يتبعها هي مجرد قروض لا تلبث أن ترد حال العودة إلى أوروبا.
يقول عبد الإله: " لقد رأيت حقائق مريعة هناك، أغلب المهاجرين - خصوصا من غير الطلبة - يعيشون أوضاعا مزرية و شقاء متواصلا، و الغريب أنه عندما يقترب وقت العودة إلى المغرب يقومون بالاقتراض من البنوك ( و هو شيء ميسر هنا) و يقتنون سيارات و ملابس ثمينة كي لا يقول الآخرون أنهم لم يحققوا شيئا. لا أنكر انك تستطيع هذا إن كنت كفؤا ، لكن الأقلية هي من يتسنى لها ذلك"
على أننا يجب أن نؤكد أن السبب الرئيسي بلا منازع هو البطالة ، فكما يقولون " حيث توجد الكرامة يوجد الوطن" ، و لا كرامة بدون عمل يوفر العيش الكريم..
يقول محمد، 20 سنة ، و هو يستلقي على ظهره في إحدى المقاهي حيث يعمل:" سبق لي أن جربت الهجرة سرا ، كنا حوالي 29 شخصا تكدسنا في قارب سعته لا تفوق نصف العدد، و عندما وصلنا وجدنا حرس الشواطئ الإسبان بانتظارنا و قاموا بإرجاعنا إلى هنا لحسن الحظ، لكنني لن أيأس و ليس لدي أي عمل آخر أقوم به سوى ترصد الفرصة للهجرة من جديد".
محمد هو ضحية من ضحايا مافيا الهجرة السرية التي تناسلت بكثرة سواء بإسبانيا أو المغرب، و هي الوجه الآخر لهذه الظاهرة و التي تستغل حاجة هؤلاء إلى الهجرة فتقبض منهم مبالغ طائلة و تكدسهم في قوارب اصطلح عليها ب " قوارب الموت" لأنها لا تصل في الغالب إلا أشلاء في حين يبتلع البحر راكبيها.
و تشدد السلطات المغربية و الإسبانية المراقبة، و تنشط أفكار المهاجرين السريين و تتنوع وسائل الهجرة بين الاختفاء في شاحنات نقل البضائع أو في تابلوه السيارات، أو حتى استعمال الدراجات الهوائية البحرية ، المهم هو الوصول إلى الضفة الأخرى بأي ثمن.
و طبقا لإحصائيات قامت بها السلطات بمدينة تطوان فقد وصل عدد المرشحين للهجرة السرية الذين ألقي القبض عليهم في السنة الماضية في تطوان وحدها 9100 فرد، من بينهم 1150 فردا ينتمون إلى دول إفريقية أخرى ، و تتراوح أعمارهم بين 12 و 40 سنة في الغالب.
و طبقا لإحصائيات الاتحاد الأوروبي فإن مايزيد عن نصف مليون مهاجر سري دخلوا القارة الأوروبية خلال السنة الفارطة، كما تعتقل فرنسا سنويا ما يقارب 15 ألف مهاجر على طول سواحلها.
كما أوقفت السلطات الإسبانية أكثر من 13 ألف مهاجر سري على سواحلها منذ مطلع هذا العام و حتى 31 غشت الماضي ، كما ذكرت أنه تم العثور على 130جثة مهاجر غير شرعي قضى معظمهم غرقا دون حساب الجثث التي لم يلفظها البحر.
يقول نيفيز بينيطو خبير شؤون الهجرة في رابطة حقوق الإنسان بإسبانيا : " إن القوارب التي تقل هؤلاء المهاجرين تغادر السواحل الإفريقية حوالي الساعة الثامنة مساء عندما يكون البحر هادئا، إلا أن العواصف يمكن أن تهب بعد مرور ساعتين فقط".
أما تفجيرات نيويورك و واشنطن الأخيرة فلم تكن لتمر دون أن تأثر على حركة الهجرة السرية و قوارب الموت، حيث توقفت لمدة 10 أيام كاملة بصفة شبه كلية رغم أن الحالة الجوية كانت ملائمة، و هو ما عزته السلطات الإسبانية إلى أن السلطات المغربية أصبحت تقوم بواجبها على أكمل وجه. في حين قال مراقبون و محللون أنه كان للصدمة أثرها البالغ على هؤلاء.
لقد أصبحت أخبار الهجرة السرية في الصحافة المغربية أخبارا عادية تطالع القارئ بصفة شبه يومية، و لم تعد سبقا صحفيا صحفيا نظرا لكثرتها و تكرارها، و هو ما يمكن اعتباره مأساة أخرى.
أخيرا، يمكن اعتبار الهجرة السرية في حكم الذكرى لو تم تشديد المراقبة على الحدود و خصوصا لو تم القضاء على البطالة.
هذا، على أمل أن يأتي يوم لا نرى فيه هؤلاء الشباب يقفون على الشاطئ يتأملون - كعادتهم - الضفة الأخرى، في انتظار الذي يأتي ... و قد لا يأتي.