تحل بعد بضعة أشهر فقط الذكرى المئوية الثانية لميلاد الكاتب الانجليزي الشهير تشارلز ديكنز والتي توافق تاريخ 7 فبراير 2012 ورغم وصية هذا الروائي الكبير التي يحظر فيها نحت أي نصب له يخلد ذكراه! فقد تقرر هذه الأيام -عكس رغبته- نحت نصب ثالث آخر له من مادة البرونز بعد الإثنين الموجودين بمدينتي فيلادلفيا بأمريكا وسيدني بأستراليا، وذلك بمدينته ومسقط رأسه بورتسموث، وينتظر أن يدشن هذا الصرح شهر أغسطس من عام 2012 وحجة سلطات هذه المدينة أن ديكنز أضحى تراثاً وطنياً وإنسانياً جديراً بالتكريم والإشادة والاعتراف والتخليد أيضاً، ولو أن ذلك يناقض التوجهات المزاجية لمؤلف رائعة "أوليفر تويست".
اسمه الكامل "تشارلز جون هوفام ديكنز ويختصر في Charles Dickens"، ولد هذا الكاتب الشهير إبان العصر الفيكتوري بحي لندبورت بورتسي ضواحي بورتسموث جنوب إنجلترا في اليوم السابع من شهر فبراير من عام 1812 لأب يعمل موظفا إداريا عادة ما ترهق كاهله الديون وأم عليلة ضعيفة البنية، ولأن الحاجة إلى المعرفة ظلت تنهشه من الداخل راح يلتهم في بداية قراءاته روايات المغامرات لمؤلفيها توبيس صمويليت، وهنري فيلدينغ، وذلك منذ نعومة أظافره.
لقد كان الفتى ديكنز يملك ذاكرة بصرية مدهشة بحيث كان بمقدوره أن يسجل أدق تفاصيل الأحداث والأشخاص في لمح البصر، الأمر الذي مثل لديه مكسباً حقيقياً ساعده على نسج حبكات رواياته بشكل كبير.
مطالبه الفردية باتت مطالب شعب بأكمله
عاش طفولة سعيدة إلى غاية عام 1824 حيث أخذت حياته بسرعة منعطفاً مغايراً، إذ أعتقل والده وزج به في سجن "مارشالسي" جراء الديون المتراكمة على عاتقه، وهو ما دفع بالطفل ديكنز الموهوب إلى اقتحام عالم العمل مبكراً، ليعمل 10 ساعات في اليوم داخل مصنع لدهان الأحذية وذلك مقابل ستة شيلينات في الأسبوع، كل هذا بقصد مد يد المساعدة لعائلته البائسة والمعوزة.
وإذا كانت كلمات ديكنز وأسلوبه في الكتابة سحري يخطف الألباب ويأسر القلوب من شدة سلاسته وعذوبته الفائقة إلى الحد الذي يخض قارئه من الداخل، فلأنه كان يستمد إلهامه من تجاربه الذاتية ومعاناته اليومية وربما كان هذا ذلك وراء إطرائه - عندما أضحى راشداً -لقيمة العدالة والحرية والمساواة اللواتي صارت شيئاً فشيئا ً مطلب شعب بأسره، ومن هنا فإن غياب المساواة ضمن الطبقات الاجتماعية ،واستغلال الأطفال، وشيوع الجور، واغتصاب حقوق الإنسان من طرف رأسمالية متوحشة كل هذه العوامل جميعا أثثت التيمات الجوهرية لكافة رواياته.
كان تشارلز ديكنز عند مغادرته باب المصنع الذي يشتغل به دائم التردد على مدرسة شعبية ولمدة استغرقت ثلاث سنوات كل هذا بغية نسيان الذكريات الصعبة لأيام العمل المضنية التي ربضت في وجدانه مثل الوشم إلى آخر أيام حياته، وعلى هذا النسق أضحت الظروف الشاقة التي يجبر العمال على الاشتغال ضمنها باسم الثورة الصناعية تمثل لديه الموضوع الأثير والمحوري في مجمل نصوصه وكتاباته المستقبلية، وفيما بعد عمل ديكنز موظفاً لدى أحد المحامين، ثم عمل كاتب مختزل في مجلس العموم، حيث جذب الانتباه إليه لنباهته وألمعيته وحس دعابته وروحه المرحة، وفي عمر 18 سنة شغفته حباً فتاة تدعى "ماريا بيدنل" ولأن والديها رفضا منح يد ابنتهما له فقد قاما بإرسالها إلى فرنسا لمواصلة دراستها.
سنة أولى صحافة
وبدءاً من سنة 1834 دخل كاتبنا عالم الصحافة كمحرر في مطبوعة "مورنينغ كرونيكول" ومنذ ذلك الحين أضحى يقسم وقته بين ممارسة الصحافة ورسم الخطوط العريضة لرواياته، وكانت الثمرة المباشرة لتعاون ديكنز مع صحف يومية أخرى ميلاد سلسلة من النصوص عرفت نجاحاً فورياً تقريباً.
هذه النصوص السردية الهجائية الطابع تتمركز حول الحياة الحضرية بلندن وتم نشرها على شكل حلقات، وكانت الرواية الأولى لديكنز تحمل عنوان " أوراق ما بعد الوفاة لنادي بيكويك " والتي نشرت سنة 1835 استجابة لطلب ناشر وقع معه عقداً لتحرير رواية هجائية، ويدور موضوع هذه الرواية حول شخصية "صموائيل بيكويك " البطل الساذج المريض بالعظمة الذي يقوم بسفر طويل برفقة أصدقائه من نادي بيكويك، وخلال ذلك تقع له عدة مغامرات ساخرة على غرار خطئه في تحديد غرف الفنادق ومعاناته من أجل تعلم امتطاء الخيل واستمتاعه بالتزحلق على الجليد.
هذا الكتاب لقي نجاحاً ساحقاً لا نظير له حتى أن الإنجليز صاروا يطلقون فيما بعد على حيواناتهم الأليفة اسم بيكويك، ترابيس أو غوستيس وناثالين وهي أسماء شخصيات أبطال هذه الرواية، ولم يكن ذلك مقتصراً على الإنجليز فحسب، حيث أن تلك المرحلة التاريخية عرفت أيضاً إطلاق اسم بيكويك على نوع معين من القبعات والمعاطف وحتى السجائر، كما أن اسم بيكويك يطلق اليوم على نوع من الأمراض في الطب هو "تناذر بيكويك" الذي هو عبارة عن إغفاءات يصعب السيطرة عليها وأصحابها يستسلمون للنوم في أية لحظة دون مقاومة وفي جميع الظروف.
بين الزواج والحب
وفي سنة 1836 اقترن ديكنز ب" كاترين تومبسون هوغارث "، وهي الابنة البكر لناشر مطبوعة " إيفنينغ كرونيكول " وفي أعقاب هذا الزواج استقر به الحال في بيلومسباري، حيث أنجب عشرة أطفال على امتداد 20 سنة من حياته الزوجية.
بعد ذلك صار ديكنز يعمل بمجلة " Bentley.s Miscellany" التي شغل فيها منصب الناشر، وإثر صدور رواية "أوليفر تويست" على صفحات هذه المجلة الأدبية لقيت نجاحا منقطع المثيل، وبعد نشر نصوصه الأخرى على غرار "حياة ومغامرات نيكولاس نيكلباي" عام 1839 متبوعة ب" محل الأشياء القديمة" والتي استقبلها القراء أحسن استقبال، وفي سنة 1842 سافر ديكنز إلى العالم الجديد لكنه أصيب بإحباط عند رؤيته للولايات المتحدة كأرض موعودة للعبودية، وللتذكير فإن فصولاً عديدة من رواية "حياة ومغامرات مارتن تشزلويت" كانت مخصصة أصلا للحديث عن شخصيات هاجرت إلى أمريكا.
وعندما بلغ ديكنز الثلاثين أضحى كاتباً مرموقاً غزير الإنتاج، حيث واصل إبداع روايات ذات ثقل مشهود مثل "دمبي وولده"، "ديفيد كوبرفيلد"، "أوقات عصيبة"، "الصغير دوريت"، "قصة مدينتين"، و"آمال كبرى"، لكن كان يجب انتظار حلول سنة 1845 لتأسيس فرقته المسرحية التي كان هو نفسه مديرها وأحد الممثلين بها أمام الملكة فيكتوريا بالذات، و بعد سنوات وقع ديكنز في غرام إحدى الممثلات بفرقته المسرحية تدعى "إيفلين تيرنن"، هذا اللقاء الذي أفضى إلى انفصاله من زوجته عام 1858، وبدءاً من سنة 1853 قدم ديكنز عدة قراءات لنصوصه الروائية ضمن حلقته التي تضم القراء الأوفياء، وإثر نجاحه الكبير في هذه التجربة بانجلترا عاد مرة أخرى للسفر إلى الولايات المتحدة عام 1868 بقصد إلقاء محاضرات تتمركز حول مؤلفاته الروائية، وعقب رجوعه من سافر إلى فرنسا.
في يونيو 1865 أصيب بعجز نجم عن حادث سير ترك أثره العميق في نفسه طوال بقية حياته، ومن خلال هذه التجربة المؤلمة شرع في كتابة أعمال أخرى منها رواية "لغز إدوين درود" لكنها ظلت مع الأسف غير مكتملة.
الوفاة والحداد
بتاريخ 9 يونيو 1870 توفي ديكنز على إثر سكتة قلبية مفاجئة، حيث دفن بدير "ويستمينستر" في " زاوية الشعراء" كونه من طبقة الكتاب والأدباء، وفي يوم تأبينه قال الشاعرهنري لونغفيلاو: "أنه لم يخلق موت كاتب مثل هذا الشجن، كأنما الشعب كله في حالة حداد !"، وقد تم نقش على شاهد قبره عبارة "لقد كان يتعاطف مع الفقراء المتألمين والمسحوقين، وليس إنجلترا فقط لكن الإنسانية جمعاء فقدت فيه واحداً من كتابها العظام".
لقد كان دور ديكنز في إنجلترا إبان العصر الفيكتوري شبيهاً بدور شكسبير في عصر النهضة، حيث يصنف هذا الروائي اليوم من بين كبار الكتاب باللغة الإنجليزية في كافة العصور، إذ ترك تأثيره القوي في أجيال من الأدباء، فلقد كان من جهته شديد التأثر بفيكتور هيغو وشكسبير أما هو فقد تأثر به عديد المشاهير من أمثال فيدور دوستويوفسكي، توماس هاردي، توم وولف، إدغار آلان بو، جون إيرفينغ وهذا الأخير أسلوبه في الكتابة شبيه بأسلوب ديكنز على نحو مثير للانتباه.
إن ديكنز يعتبر شيخ الهجائيين الاجتماعيين ومذهبه في الكتابة يقترب من المذهب الواقعي، الذي كان له معجباً به، وقد اشتهر أسلوبه رغم شعريته العالية بمسحاته الساخرة حتى ضمن المقاطع الأكثر دراماتيكية في رواياته التي تجتهد في تعرية واقعاً مريراً وتحاول رسم بجرأة متناهية مصير الطبقات الاجتماعية المطحونة والبائسة، والقراء ضمن هذا كله لا يملكون سوى ذرف الدموع وهم يقرؤون الصفحات التي يخطها قلمه عن سيرة أطفال يعملون في ظروف اجتماعية يرثى لها ولساعات طويلة في مصانع إنجلترا إبان الثورة الصناعية.
ترجمت جل أعمال ديكنز إلى عدة لغات عالمية كما حول الكثير من رواياته إلى أفلام سينمائية، وعلى سبيل المثال فقط نذكر أن روايته "أوليفر تويست" ترجمت إلى 68 لغة، وللتذكير فإن جل روايات ديكنز تقع أحداثها عادة في لندن المدينة التي يعرف أدق التفاصيل عنها وعن زواياها ومواقعها المهجورة و الأكثر هامشية وعتمة، ويبقى في النهاية الإشارة إلى ما ذكره مؤلف " Dictonary of British Literary Characters" جون غرينفيلد على أن ديكنز أبدع طوال حياته الأدبية ما لا يقل عن 989 شخصية وهو ما يعني أن هذا الروائي كان يملك مخيالاً خصباً متفرداً ومقدرة على الابتكار مكنته من أن يفض ببراعة وصدق كل الحجب الخفية للذات البشرية، وببصيرة عجيبة وبلاغة تدنو من الإعجاز.