عمل الأطفال في المغرب: الفقر والهشاشة الاجتماعية أبرز الدوافع
يقدر عدد الأطفال المغاربة المشتغلين والمتراوحة أعمارهم ما بين 5 -14 سنة ما يقارب 600 ألف طفل قروي، 300 ألف طفل مغربي خارج النظام المدرسي، 11 بالمائة من الأطفال دون 18 سنة من أصل 200 ألف متسول بالمغرب، هذه الأرقام مؤشرات تستبطن آفة التفاوت والهشاشة الاجتماعية، كما تعكس ظاهرة تشغيل الأطفال والتي تنتج عنها ظواهر أخرى يكشف عنها هذا التحقيق.
الضوء الأحمر
اختار سعد- في الحادية عشر - تقاطع شارعي (آنفا وموسى بن نصير) بالدار البيضاء - العاصمة الاقتصادية للمغرب- فضاء لعرض سلعته، يتحرك بخفة بمحاذاة نوافذ السيارات، مقدماً للسائقين المتوقفين عند إشارات المرور مناديله الورقية، ينظر إليه أحدهم حين يقترب منه بوجه مقطب، يسأله ماذا يريد؟ فيرد سعد: "ساعدني"، ويمد نحوه علبة مناديل.
يشيح السائق بوجهه نحو إشارة المرور وعلامات الانزعاج تعلو محياه، الضوء الأخضر يؤذن بالانطلاق، تتحرك السيارات بسرعة.
و في رمش عين كان الطفل في الاتجاه المعاكس يعرض بضاعته، حينها يمكن أن يدرك المرء لماذا يلقبه بائع جرائد يعمر هذا الملتقى، بـ "الريح" لخفته.
سعد -يخبئ دولاراً ونصف- في جيب قميصه الذي يبدو أنه كان أسودا فأصبح مع أشعة الشمس رمادياً، ويخرج علبة جديدة من كيس يعلقه في كتفه، تعلو وجهه ابتسامة خفيفة وكأنه أحرز نصرا ثمينا، ممنيا النفس في أن يبيع كل البضاعة.
"عربيات" سألت سعد عن أحوال الدراسة، ليخبرها بأنه انقطع عنها بعد طلاق أبويه منذ سنتين تقريبا، وأنه يعيش مع جدته، وبأنه مضطر لتدبير أموره خاصة وأن والدته تشتغل في مدينة أخرى.
وما بين الكلمات يمكن للمرء أن يقرأ المسكوت عنه في حديث الطفل، الذي هو مفرد بصيغة الجمع تصادفهم في أغلب ملتقيات الشوارع الكبرى يبيعون المناديل أو يمسحون واجهات السيارات كلما توقفت في الضوء الأحمر بدون إذن من أصحابها، علهم يضفرون بدرهم أبيض يحصلون عليه بالكاد من باب التسول الذي يتعاطاه حوالي 11 بالمائة من الأطفال دون 18 سنة من أصل 200 ألف متسول بالمغرب حسب دراسة كانت أعدتها وزارة التنمية الاجتماعية والأسرة والتضامن.
أسواق الشاطئ
على شاطئ البحر بعين الذئاب في مدينة الدار البيضاء يحتل الأطفال مكاناً لهم ضمن الباعة الجائلين ممن يقدمون خدماتهم وبضائعهم للمصطافين من حراس السيارات، إلى بائع البيض، والعلك، والسجائر بالتقسيط، والمثلجات، والمشروبات، والأكلات الجاهزة، والحلويات، والنظارات الشمسية، وملابس السباحة، وألعاب الأطفال، والخواتم، والسلاسل الفضية والنحاسية، يجوبون الشاطئ ذهاباً وإياباً كالقطارات المكوكية، من طلوع الشمس إلى غروبها.
بثينة -طفلة في سن الخامسة عشر من عمرها- نحيلة، وجهها دائري بلون ترابي، شعرها أسود فاحم، تعتمر قبعة تقيها حرارة الشمس، ترفعها قليلاً لتبعد خصلات شعرها المتدلية على عيناها الواسعتين، تجلس تحت مظلة عند مدخل الشاطئ، تضع بجانبها نعلها الخفيف وقارورة ماء، وأمامها طابقاً من الحلويات المحشوة بالدجاج أو السمك، تبيع الواحدة بما يقارب الدولار، في حديثها لـ "عربيات" كشفت بأنها تتابع دراستها في الإعدادي، وأنها تحصل على معدلات جيدة في كل المواد، موضحة: "أعمل في جميع العطل لمساعدة عائلتي وخاصة أختي الصغيرة، لأن والدي عاطل عن العمل".
بثينة تجهز الأكلات الخفيفة بصحبة والدتها، وتحملها نحو الشاطئ، ووفقاً لقولها، ينفذ ما تقوم بتحضيره بعد الزوال مباشرة، مضيفة: " في شهر رمضان أتحول إلى بيع الرغيف التقليدي المسمى بـ "البغرير"، طري ورهف، به ثقوب، حيث يكون الإقبال عليه كبيراً في شهر الصيام".
بثينة، مقتنعة بعملها لمواجهة وضعها الاجتماعي المتجهم، وأنها تكون سعيدة حين تستطيع التخفيف عن عائلتها صعوبة العيش الذي تعودت على تحمل مشقته، خاصة فيما يتعلق بتكاليف الدخول المدرسي.
بلاغة الأرقام
سعد وبثينة، مجرد عينات مؤشرة على شظف العيش الذي يجعل بعض الأسر تدفع بأبنائها للعمل، ويتضح ذلك من خلال نتائج البحث الوطني -الذي أنجزته وزارة التشغيل بالتعاون مع البرنامج الدولي للقضاء على تشغيل الأطفال بمبادرة من منظمة اليونيسيف، ومنظمة العمل الدولية، والبنك الدولي- أن عدد الأطفال المغاربة العاملين والمتراوحة أعمارهم ما بين 5 - 14 سنة يقدر بحوالي 600 ألف طفل قروي، أي نسبة 11 بالمائة من مجموع 5,5 مليون طفل بالمغرب، منهم حوالي 1,3 مليون طفل دون 14 سنة يقومون بأشغال تعتبر شاقة.
ويستغل عمل الأطفال في الرعي والأنشطة الزراعية في الحقول والبوادي وفي العديد من الحرف والخدمات بالقطاع الغير المهيكل بالمدن.
هذا دون احتساب الأطفال الذي تقودهم ظروف الهشاشة و الفقر إلى الدراسة و العمل في آن واحد، فضلاً عن الأطفال غير المصرح بعملهم، و الآخرين الذين يتعذر حصرهم بدقة متناهية من الذين وصفهم تقرير منظمة هيومن رايتس الأخير، بأنهم أطفال "داخل البيوت، خارج القانون".
الهشاشة الاجتماعية وراء عمل الأطفال
السيد محمد العودي الباحث في الجغرافية الاجتماعية، في تصريح لـ عربيات اعتبر تشغيل الأطفال دون 16 سنة بالمغرب، يظل بالخصوص ظاهرة قروية، بحيث أن 87 في المائة من الأطفال العاملين ينتمون الى العالم الريفي الذي ينتشر فيه الفقر بامتياز، إذ يتبين من خلال البحث الوطني حول تشغيل الأطفال تبعاً للعودي، أن الأسباب الرئيسية لتشغيلهم يرجع بالأساس الى فقر الأسر واتساع حجمها، هذا بالإضافة إلى عامل الهجرة القروية، وتفكك الأسرة، وتفضيل اليد العاملة الصبية بخاصة في العديد من أنشطة القطاعات غير المهيكلة، وأيضا عامل الفشل المدرسي.
ويرى الباحث عبد الرحيم العطري أن ظاهرة عمل الأطفال هي نتاج للهشاشة الاجتماعية ولأسر"عتبة الفقر" التي لا ترى في الطفل إلا كمشروع استثماري، ويد عاملة تكتسب قيمتها الرمزية و المادية من الدخل الذي توفره لصالح الأسرة.
ومن أقاصي الهشاشة الاجتماعية تولد الظاهرة و تستمر في الاتساع الكمي و النوعي، مدشنة بذلك لظواهر أخرى، من قبيل التحرش و الاستغلال الجنسي للأطفال.
وفي نفس السياق، كشف البحث الميداني الذي أنجزته كتابة الدولة المكلفة بمحاربة الأمية والتربية غير النظامية، بتعاون مع منظمة "اليونيسيف"، عن وجود مالا يقل عن 300 ألف طفل مغربي خارج النظام المدرسي، خاصة وأن النسبة الإجمالية للدارسين في المرحلة بالابتدائي والثانوي والعالي لا تتعدى 58 في المائة، مقابل 94 في المائة بليبيا، و75 في المائة بتونس، و73 في المائة بالجزائر كدول مغاربية مماثلة، وقد بين البحث نفسه، أن نسبة الأطفال المنقطعين عن الدراسة بالمغرب بالنسبة للفئة العمرية من 9 - 14 سنة تبلغ 15 بالمائة، الأغلبية منهم فتيات.
تطبيق عقوبات ضد من يُشَغل الأطفال إحدى حلول الردع
في هذا السياق تصرح نجية أديب رئيسة جمعية "لا تلمس أولادي"، لـ عربيات حول علاقة التحرش الجنسي بتشغيل الأطفال، على ضوء تجربة جمعيتها وخبرتها وما راكمته من ملفات في هذا الشأن منذ 2006 إلى الآن، حيث يبرز أن عدد الحالات المتعلقة بالاعتداءات الجنسية على الأطفال المرتكبة في حقهم من طرف المشغلين في ورشات العمل كمحلات النجارة، والميكانيكا، والخياطة، وفي البيوت - يتعلق بالعمل كخادمات- تجاوزت 1000 حالة، وهو رقم فظيع إذا أخذ بعين الاعتبار الشكايات التي يمكن أن تكون توصلت بها جمعيات مماثلة، أو الحالات التي لا تصرح مطلقا درءاً للفضيحة، أو لكونها تكون مغلوبة على أمرها.
أديب شددت على ضرورة تطبيق القانون، خاصة المادة 143 من مدونة الشغل، والتي تشير إلى أن تشغيل حدث دون سن الخامسة عشرة، ينتهي بالمشغل إلى أداء غرامة مالية تتراوح ما بين 25 ألف - 30 ألف درهم ، و يمكن أن تصير العقوبة سجناً نافذاً من ثلاثة إلى ستة أشهر في حالة العود مع أداء الغرامة بشكل مضاعف.
هذا ما يكتب في فصول القانون، أما غريزة البقاء، فإنها تدفع الناس إلى التفاعل مع ظروف الفاقة وتشعبات الحياة الجديدة في زمن العولمة، مجندين لذلك طاقة كافة أفراد الأسرة، بما فيهم الأطفال، بإمكانياتهم الذاتية المتواضعة من أجل البقاء.