أم محمود أرملة منذ 18عاما، تتوسط غرفة منزلها في الطابق الأرضي، تجلس وحيدة يدها على خدها، تتحدث بأسى عن قصة حياتها المليئة بالعذاب، فقد كانت زوجة لرجل مشلول تعمل حتى تعيل أسرتها، ولا زالت نظرة عدم التصديق في عينيها لم تستوعب حتى الآن ولم تستطع التصديق بأن اثنين من أبنائها رحلوا عنها معا وإلى الأبد.هذه، مأساة أم محمود هي ذاتها المأساة في بيوت مخيم جنين الذي نزل عليه الغضب الإسرائيلي خلال العدوان الشهير في نيسان الماضي.
أم محمود والدة الشهيدين أياد وياسر حسين السايس، كلاهما لم يتجاوز أل 25عاما اغتالتهما يد الغدر في قلب منزلهم في مخيم جنين.كان ياسر لا يزال عريسا ولم يمر على زواجه سوى شهور قليلة، غادرهم تاركا وراءه زوجته الحامل بأربعة شهور، أما إياد ففي نفس اليوم الذي رحل فيه رزق بتوأم ولد وبنت أسمت زوجته ابنه أياد على اسم والده، ومثل معظم شهداء ذلك المخيم لم يحملوا سببا لقتلهم، فقد أمطر جيش الاحتلال المنزل بوابل من الرصاص كانت كفيلة أن تقتل أي أحد في الطابق العلوي من المنزل دون سابق إنذار.
رحلوا في عشر دقائق
وعن قصة استشهادهم تتحدث والدتهم قائلة" تركت أبنائي في الطابق العلوي من المنزل يريدون تناول طعام الإفطار، بعد أن عاشوا أياما من الرعب والخوف، وكنت بالطابق الأول من المنزل، كان صوت الرصاص شيء تعودنا عليه عندما اندفع أبني إياد والدماء تغطي ملابسه وهو يصرخ " يمّا …يمّا…ياسر استشهد…"، لم استوعب في البداية ما كان يقول فركضت إلى أعلى حسب إشارة يديه ووجدت ياسر مضرجا بالدماء وقد فارق الحياة " تنهدت طويلا وكأن المنظر ما زال أمامها وكذلك صورة الزجاج المتطاير ودماء ياسر في طعام الإفطار حيث كان يجلس.
بين الدموع التي بلا نهاية والكلمات المتقطعة راحت تجر الكلمات علها تعبر عن القليل مما رأته في ذاك اليوم، "أخذ أياد بالتخفيف عني رغم أنه كان يتمزق ألما، وراح يقول" ما تزعلي يمّا ياسر شهيد لازم تفخري فيه وإنشاء الله كلنا على هالطريق… هاي نعمة نيالو اللي ينولها". " أجلسني في الطابق الأول وصعد للأعلى كان يريد الوصول لبيت الجيران لإحضار سيارة إسعاف، وعندها سمعت صوت رصاص وهرعت إلى أعلى فوجدت أياد ملقى على الأرض بالقرب من الدرج الموصل للجيران اخترق الرصاص جسده قبل أن يصل الباب…، رميت نفسي عليه أنا أصرخ غير آبهة للرصاص ولا لصرخات الجيران بأن أبتعد عن ابني الذي أدركت فيما بعد أنه نال ما تمنى قبل دقائق معدودة…"" وتابعت " عشرة دقائق فقط وكنت فقدت الاثنين…".
لم تستطع أم محمود أن تكمل فرحيلهما كان صعبا عليها وقد كانت المعيل الوحيد لهم، وشقيت وتحملت لكي تراهم رجالا كما تقول كلماتها وتبرهن تجاعيد وجهها وعلامات الشقاء على يديها، "بعد وفاة زوجي اضطررت للعمل بإسرائيل من الصباح الباكر وحتى العاشرة ليلا، كنت أكد ليل نهار وأنا لازالت شابة في أوائل العشرينات من العمر"،وتضيف:" أذكر أنني خلال شهر رمضان كنت أفك صيامي من قشر الشمام الذي كنت أعمل في قطفه كي لا أتعطل عن العمل…"، وتحملت أم محمود في رحلة عذابها كل أشكال الظلم الذي وقع عليها سواء من الوضع الاقتصادي أومن الاحتلال، " الآن تأخذ قذائف إسرائيل مني كل من تعبت لأجلهم سنين، تركوني في لمح البصر، عزائي الوحيد أنهم شهداء…وأن الله رزقني مسؤولية تربية أبنائهم من بعدهم".
الابن الأكبر محمود كاد يقتل هو الآخر،" لم أكد أفتح الباب وكنت أحمل إياد على كتفي محاولا التحدث مع الجنود لإيصال أخيه إلى المشفى، حتى أطلقوا علي الرصاص واضطررت عندها للتراجع، حيينها ظنت والدتي أنني أيضا قتلت و لم تتحمل الصدمة وفقدت الوعي…".
أم محمود تقول:" ما يخفف علي أن حالي كحال الكثيرين من أهل المخيم، شقيقتاي أيضا فقدت كل واحدة منهما اثنين من أبنائهم، وكذلك فقد شقيقي ولده…"، وأداة القتل كانت يد همجية صهيونية لا تعرف معنى للإنسانية ، آخر كلامها كان "الحمد لله على اللي من الله".
" ولكني أصدقكم القول كان لي خمسة أبناء والآن أصبحوا ثلاثة وفي كل يوم انظر إليهم عندما يخرجون من المنزل نظرة مودع فأنا لا أضمن أن أراهم مرة ثانية" أضافت.
كان هناك أكثر من 20 شاهدا من الأهل والجيران، الذين يجمعوا بأنهم متأكدون من أن الجنود لم يكونوا من البشر وإنما في مرتبة أدنى من الحيوانات التي على الأقل تقتل لتأكل، بعكس أعين الجنود التي كانت تقول بأنهم يقتلون لأجل القتل فقط، وذلك بغرض الإبادة، فالرصاص كان موجه لأي شخص يتحرك لكي لا يبقى هنالك شاهد على المجزرة لكن المستعدين للشهادة كثر.
كان المطلوب من الأمم المتحدة ولجنتها التي شكلت للجمع الحقائق عما جرى في المخيم، هو زيارة صغيره…ربما كانوا حيينها غير مضطرين لجمع الشهادات فما حدث في المخيم لازال جاثما على أرضه حتى اللحظة، حتى دماء الشهداء، وعظامهم المتناثرة بعد تفحمها لازالت بقاياها شاهدة…