مبادرة أهلية في جنين العتيقة : " من زمان " حيّز واقعي في الحاضر
قليلاً بجانب السينما التي كانت ذات نهار مكانا ثقافياً يرتاده الصغار والكبار، واليوم بدأ الغبار في الداخل يستقر في قلبها، على بعد خطوات يتيمة تصمد يافطة حديثة تخبر بهوية المكان: "الجمعية النسائية الثقافية للتراث الشعبي" بناء تاريخي يعود لحفنة من العقود.
داخل المكان الذي عادت الحياة إليه بعد طول انقطاع تجلس عشرات النسوة في يوم الافتتاح الأول كخلية نحل: أم عماد كقائد " أوركيسترا"، وخالدية عابد ساعدها الأيمن، ورحاب وأريج وآمنة وميسون كل واحدة لها شأن يعنيها و"الهدف واحد".
التفاف على الحزن
تشرع هيام أبو زهرة أو أم عماد بزي يتشحه السواد في روي قصتها مع فكرة تطورت لتصبح حكاية فتقول: تبلورت الفكرة عن طريق ابني الشهيد الصحافي عماد، فعندما كان يشاهدني أمارس هواياتي في صناعة أشغال يدوية، كان يتوجه إليّ: إن هذه المهارات يجب أن تطور وتنقل إلى الآخرين.
بدأت أم عماد العام 1995 و مجموعة من سيدات جنين بالتأسيس لمقر جمعية تعني بإعادة الحياة إلى التراث الفلسطيني وتعريف الجيل الجديد به، وبتشجيع من عماد الذي أطلق على المكان أسم" من زمان"، ورحنا نقدم منتجات تراثية ونقيم نشاطات كثيرة إلى أن أجبرتنا الظروف القاهرة على إغلاق المكان وتأجيل مشاريعنا إلى إشعار آخر…
تكمل: في 22نيسان 2003 حصلنا على ترخيص لتأسيس جمعية نسائية ثقافية تراثية، وعزمت على إكمال حلم عماد الذي أستشهد في تموز عام 2002 أثناء قيامه بواجبه الصحافي.
وكأن أم عماد حاولت الإطاحة بالأحزان والآلام وزراعة شيء من الأمل عبر إحياء ما أحبه الشهيد الغائب الحاضر.
ترحل قليلاٌ إلى الماضي، وتستذكر شغف نجلها الأكبر في جنين، فهو الذي كان يطلق على نفسه اسم " أبو جنين"، وراح منذ طفولته المبكرة يلتقط صور المدينة ونخيلها ومسجدها القديم وحاراتها العتيقة، ويجمع كل شيء يمت للمدينة بصلة.
بعدها أسس جريدة أطلق عليها اسم " جنين" وراح في كل أسبوع يحاول البحث عن الماضي ويقدمه للجيل الجديد ويذكر الكبار به.
تستأنف حديثها للإشارة إلى أهداف الجمعية فتقول: نسعى لتثقيف الجيل الشاب من النساء في النواحي الصحية والاجتماعية والثقافية والدينية وفي كل أشكال المعرفة.
ولى أم عماد ورفيقاها التراث الشعبي عناية فائقة، وهنا يسرفون في التخطيط لتنفيذ جملة من الخطط التراثية ، في المرحلة الأولى سنركز الجهود على نقل المعرفة في صناعة المطرزات والقشيات والأعمال التراثية وبعض الفنون اليدوية والمشغولات للشابات والسيدات اللاتي تنقصهن الخبرة فيها، حرصاً على تراثنا من الاندثار.
مقهى نسائي
تفكر هيام أبو زهرة التي وصلت إلى سن الخمسين وزميلاتها في إطلاق مشروع استراحة نسائية تتضمن مقهى ومتنفس للسيدات اللواتي يتعبن من واجباتهن الوظيفية والمنزلية، فيرتشفن فنجاناً من مشروب بارد أو ساخن، وتسمع آذانهن شيئاً ثقافياً وفكرياً من محاضرين متخصصين.
إلى جانب هذا وذاك، تسعى نساء الجمعية التراثية الوصول لمكتبة تراثية عبر البحث عن مقتنيات ثقافية قديمة، ترى أم عماد أن الاهتمام بها تراجع بالنسبة للجيل الجديد.
، وستمتع الأمهات في استراحتهن، مثلما يستمع الأطفال إلى "حكواتي" يحاول إعادة الروح إلى الأيام القديمة.
" باختصار سندمج بين القديم والحديث، و سنحافظ على تراثنا فمثلاً من ترتدي الجلباب يمكنها التفكير بالزي الفلسطيني، ومن تحمل هاتفاً نقالأ بوسعها الاحتفاظ ببيت قماشي مطرز بشكل رائع، ويمكننا إدخال القش والنحاس كتحف في بيوتنا" على هذا النحو تابعت أم عماد حديثها الصديق للتراث، وتضيف: ببساطة سنجعل السيدات اللواتي تآمرت عليهن الأيام يجرين فحصاً ذاتياً لسرطان الثدي كالحال الماثل في دول أوروبا وغيرها، وسنحاول اهتمام المرأة بصحتها للوقائية من هشاشة العظام ومحاربة الأمراض الشائعة والخفية.
تفيد " الأم الروحية" للجمعية ومعها الكثير من النصيرات: سنطلق فكرة حضانة نموذجية، وسننقل جملة كبيرة من المعارف بالأشغال اليدوية وفنون التطريز والرسم على الزجاج وتصوير الفيديو، وكيفية استخدام الخيش كستائر.
تفاصيل
في رواق داخلي أعيد ترميمه بإمكان المرء مشاهدة الأدوات القديمة: هنا يستقر غربال تراثي كان ولا زال يستخدم في تنقية الحبوب و الحنطة من الشوائب والبذور الطفيلية، في ركن آخر تجثم أواني وجرار لحفظ الماء واللبن، في باحة ثالثة ثمة أواني لمعالجة القهوة، فيما "وابور" الكاز يستقر في ناحية منفردة، وعلى جدارية مقابلة تحتلها لوحات ومطرزات وصور ألوان كثيرة، وهناك أيضاً ستائر صنعن من الخيش الذي أهمل في أيامنا، و في محطة أخرى تستلقي أزياء شعبية فلسطينية في استراحة قصيرة تقطعها لمسات الجمهور الذي يتفحص لونها وتصميمها: هذا لبيت لحم وذاك لجنين وهناك زي رام الله والقدس وآخر لبيت لحم.
صار الزائرون على مقدرة ولو متواضعة تؤهلهم لتمييز الأزياء عن بعضها: الأكحل لرام الله، والأسود لجنين والأحمر لبيت لحم و الزهري لرام الله.
ولم تغفل الناشطات هنا عن عرض عينات من أصناف بقوليات وحنطة وزعتر وأعشاب طبية و مخللات كلها صديقة للبيئة.
للجمعية هيئة إدارية مكونة من سبع سيدات، يضاف إليهن ثمان أخريات يشكلن هيئة تأسيسية للجمعية التي قال عنها أحد الزوار: "اكتشفت في هذا العمل روح الانتماء لتراثنا".
فوق جدارية المكان الذي شهد الحوار رقدت رسومات كبيرة الحجم للوحة كاريكاتورية لناجي العلي يقول صاحبها لزوجتنه: "الصبر طيب يا فاطمة ". وفي زاوية أخرى صورة قديمة لعرس فلسطيني غاب هذه الأيام أو صودرت حركته وتحاول أسطوانة قديمة لناظم الغزالي تصدح في المكان توجيه تحية للزوار.
يأخذ صندوق خشبي قديم هو خزانة لعروس هي اليوم طاعنة في السن، غفوة طويلة ويضم حلي وملابس ومقص وأبر وأمشاط للشعر ومرآة وتفاصيل صغيرة أخرى…
هناك أيضاً جاروشة للحنطة أو رحى وطناجر حلبية تحاول النطق وتشتاق ليد تستخدمها أو تحفظ عهدها، ومدق خشبي كان يستخدم لتنعيم اللحم المستخدم في صناعة الكبة.
تستعد أم عماد و مثيلاتها لإنشاء مطعم شعبي سيقدم أطباق يومية راثية سيعلن عنها في وسائل الإعلام المحلية، كالمسخن الذي كان طبق الافتتاح واقتحم أنوفنا، والمفتول والكبة والشيش برك والمحاشي وغبرها، وكل ذلك يخبز طابون يجثم في ناحية بعيدة من المكان المتحف.
ترهن أم عماد نفسها لتعريف الجيل الجديد من الزائرات بمهام كل أداة وتسهب قليلاً في كيفية استخدامها، وتبحث أيضاً عن المنافس الذي عزلها.
نودع المكان وتذكرنا ناشطاته بعبارة الافتتاح:" من زمان حيّز واقعي في الحاضر، لعملية نسيج تمتد خيوطها لعراقة الحاضر، وتواصل لتكوّن رؤية لمستقبل أفضل وأكثر عراقة"، مثلما سمعنا عن عروض تدفقت على هؤلاء النسوة للمشاركة في تظاهرات سورية وجزائرية ومصرية تحاول هي الأخرى العودة إلى الجذور.