الصهبة.. فن التواشيح المكية خلدته الحضارات وقتلته المؤسسات
يتكئ موروث الحجاز على ثقافات متعددة ضاربة في أعماق التاريخ، ولعل ما يميز هذا الموروث الحجازي أن أهله لم يأخذوه كما هو فقط، بل أنهم – كعادتهم – يضيفون إلى الجمال ملامح تخصهم ويهبونه شيئاً من روحانية المكان. ولو أن موروثاً في الكون يشعر بالتهميش لتمنى أن يصل إلى الحجاز ويعيش به ليأخذ شيئاً من حقه في الاحترام والإحياء. والصهبة فن أندلسي تستخدم في غناءه الموشحات، وهناك من يسميه "الصهب" أو "الصهباء" إلا أنه انتقل للحجاز منذ عقود طويلة وأصبح سمة فنية بارزة للدرجة التي جعلت منه فقرة في استقبال أصحاب الجلالة والملوك والسلاطين، ومنهم الملك خالد بن عبدالعزيز رحمه الله.
لم يكن العم صالح عسيري عميد فن الصهبة الحجازي وهو يردد الموشح ويصفق بيديه في تمام سعادته، ولعله كان في تلك اللحظات يتذكر كيف بدأت الصهبة وسادتها الأولون، وكيف خفت ظلها، ثم أعادوها، وكيف تحولت الكلمة من الموشح الأندلسي وقصائد ابن زيدون إلى موشحات بلغة بسيطة قد يكون معظمهما من مصر في عهدٍ قريب، وكأن المسافة بين ارتفاع كفه عن الآخر هي بحجم خشيته على الصهبة وتحوّل الصفقة إلى ضرب الكف بالكف، كما أن في صدره شيء على المؤسسات الثقافية، فقد ألقى كلمة العُمد المكرمين في جمعية الثقافة والفنون بالطائف أثناء حفل تكريمهم وعاتب من خلالها المؤسسات الثقافية في جدة ومكة التي لم تلتفت إلى الصهبة ولم تكرم أسيادها.
وخلال الحفل التكريمي بالطائف، التقت "عربيات" بالعمدة طلعت غيث أحد أسياد فن الصهبة، والذي تحدث بداية عن فن الصهبة بأنه: "مأخوذ من الصهب وأساسها أندلسية المكان ومن ثم نقلت إلى الحجاز وأتقنوها أهل جدة ومكة والمدينة والطائف. والصهبة لها أدوات ولها قوامين، فمن الأدوات النقرزان بخشبتين ولكن ضربه يختلف عن نقرزان المزمار. والصهبة نوعين: صهبة يماني الكف، وصهبة مصري الكف. وكانوا سابقاً يقولوا عن الصهبة اليماني نقش في الحجر، وعن الصهبة المصري غرف من بحر، وكان يمتاز بالصهبة اليماني أهل سوق الليل والشامية، وأهل أجياد بالصهبة المصري. وإذا بدأ الغناء يبدأ بالموال ويكون بأحد المقامات وهناك يبدأ الحادي "قائد المجموعة" بالغناء، وهذا الغناء الذي نسمعه في العالم كله مجموع في عدة أحرف هي: "حُمرٌ دسج"، الحاء حسيني، السين سيكا، الميم مايا، الجيم جهاركاه، الراء رست، الدال دوكا."
ورداً على تساؤل "عربيات" حول غياب الصهبة رغم حضورها سابقاً في استقبال الملوك ومنهم جلالة الملك خالد بن عبدالعزيز آل سعود رحمه الله، تحدث غيث بأنها: "اختفت فترة لأن السادة الأولين الذين كانوا يجيدون الغناء– والموت علينا حق – تواروا تحت الثرى ثم لاحظنا أن هناك شبه اندثار لهذا الموروث الشعبي الحجازي فبدأنا نستقطب بعض من الشباب لتعليمهم هذا الموروث، والحمدلله رب العالمين بدأنا في جدة بتهيئة بعض من الشباب وأصبحوا يجيدون الغناء، أيضاً في مكة هناك الأخ عثمان سعد يقود مجموعة من الشباب." ويربط العمدة طلعت غيث بين الغياب السابق وبين رسالته التي يوجهها إلى المسؤولين من خلال أمنيته: "من الجمعيات أن يكون لها دائما لقاءات دورية وتكوين شعبة خاصة في داخل جمعيات الثقافة والفنون تهتم باستقطاب الشباب الذين يتوارثون الفن عن آبائهم وأجدادهم حتى يظل الموروث محفوظ ونتداوله جيلاً بعد جيل."
الباحثة الأمريكية في التراث الفلكلوري ليسا أركيفيتش ذكرت لـ "عربيات" أن فن الصهبة يسمى "الموشح المكي" وبشكل تقريبي انقرض. وكانت من أنواع الغناء المفضلة في المدينة المقدسة في المجالس العامة والخاصة، في حفلات الزواج، الاحتفالات، والمناسبات الخاصة. مساءات الصهبة كانت تمنح الترفيه الطبيعي للمجتمعات المدنية. وهي تعتبر مختلفة جزئياً في الغناء ولها قواعد صارمة في التأديبة وأنظمة وتوظيف للمقامات المكية المشهورة. مجموعة من الجلوس، حجازيون بزيهم التقليدي المعمم يجتمعون كلهم حول ضارب الطبلات – إيقاعي النقاقير – والتي هي أصغر ومسطحة أكثر من النقرزان الحديث الموجود في الأداء الموحد المدني. وهناك آراء متعددة تشير إلى أن الصهبة خليط من فنون الموشحات الأندلسية، والموسيقى التركية التقليدية، وأنها متأثرة بالفن المصري العثماني.
يشار إلى أن لجنة التراث والفلكلور بجمعية الثقافة والفنون بالطائف أقامت حفلاً لمؤدين فن الصهبة بمدن مكة، جدة، الطائف، والمدينة من خلال تكريمهم إثر محافظتهم على التراث الغنائي العريق للمنطقة.