الشاعر المصري سمير درويش: النقاد القدامى صنعوا لنا فخًّا بمعاييرهم الكلاسيكية
بعد صدور ديوانه الأخير "من أجل امرأة عابرة" والذي أكد من خلاله الشاعر المصري سمير درويش حضوره على خريطة الشعر المصري الحديث، مشيراً إلى قدرة "قصيدة النثر" في البقاء والتطور على يد جيل الثمانينيات الذي ينتمي إليه، في الديوان ارتفاع بالكلام اليومي إلى أفق عالٍ من الشعرية، نجح خلاله في صهر ثنائية شعر/ نثر لمصلحة إنتاج شعر حميم يصدر عن حراك حياتي حي، وليس عن تهويم في الميتافيزيقا. حول هذا الديوان خاصة، وحول تجربته الشعرية عامة، كان لـ"عربيات" معه هذا الحوار.
في ديوانك الأخير "من أجل امرأة عابرة" احتفاء بالمواقف الهامشية والتفاصيل، ما الذي أردت أن تفعله فنيًّا في هذا الديوان؟
أنا أستفيد من كل ما يحيط بي وأحوله إلى شعر، لكي أستطيع قبوله والتعايش معه، أؤمن أنه إذا أردت أن تتخلص من شيء فاكتبه، أفعلُ ذلك ـ حتى ـ مع أصدقائي الشعراء. فإذا ألحَّتْ عليَّ تجربة شاعر ما وأردت أن أتخلص من ثقلها، أكتب رؤية نقدية عنها، تلك الكتابة تمنحني فرصة الغوص داخل التجربة الأخرى وكشف منطلقاتها، وبالتالي أكف عن الدهشة كلما قرأتها، هي حيلة خبيثة شيطانية، لكنها نابعة في التخلص من الكون! في ديواني الجديد "من أجل امرأة عابرة" فعلت ذلك، شعَّرتُ كلَّ الموجودات من حولي، تلك الضاغطة على أعصابي، لكي أعود وحيدًا كما أنا، وأتعرف على ذاتي بسهولة.
عندما أكتب القصيدة لا يكون بيني وبين الواقع حجابٌ، لا أفعل مثلما كان يفعل الشعراء القدامى حين يجعلون من اللغة والصورة حاجزًا بين ما يحسونه وما يكتبونه بالفعل، أنا لا أجيد تحويل البشر إلى تكوينات تجريدية، ولا المواقف إلى حكايا رمزية، لأنه في هذه الحالة لن تكون هناك فروق بين الملامح، ولا تمايزات بين الحكايا، وبالتالي ستتشابه القصائد بشكل لا يجعل شعري مثلاً يختلف عن شعر من سبقوني أو أقراني أو من سوف يأتون بعدي، هذه الطريقة القديمة في الكتابة تؤدي إلى شيئين أحلاهما سيئ: الأول: أن تكتب القصيدة نفسها دون حاجة إلى شاعر يكتبها، فتستدعي المفردة نظيرتها من قاموس واحد عقيم، والثاني: وهو نتيجة حتمية ـ أن تفقد القصيدة حرارتها، وبالتالي تفقد تأثيرها على المتلقي وعلى الشاعر ذاته الذي يحتاج إلى دفء الشعر لكي يستمر في الكتابة والوجود.
لماذا اخترت "قصيدة النثر"؟ وهل تعتقد أن القصيدة يمكن أن تستغني كليًّا عن الإيقاع؟
أنا اخترت "قصيدة النثر" بعد الكثير من التردد وتساؤل واختبار، لم أندفع إلى كتابتها طالما لم أكن أحتاج إليها، بالعكس، كنت دائمًا ما أسأل زملائي الذين سبقوني إليها: ما حاجتكم إلى "قصيدة النثر"؟ وكانت إجاباتهم وقتها غير مقنعة لي، ولازالت!
أنا أكتب "قصيدة نثر" تخصني، لا ألتزم فيها بشيء لأنني لست مطالباً بأن أثبت من خلالها أي شيء لأي أحد، فهمت ـ بعد تمرُّسٍ ـ أن النقاد والشعراء القدامى صنعوا لنا فخًّا حين أرادوا قياس فنية قصائدنا بمعايير كلاسيكية، وأننا ارتضينا هذا الفخ وتسابقنا للسقوط فيه، فأصبحنا نجاريهم في البحث عن الشعري في النثري، وأن نجتهد لنصنع إيقاعاً ما بطرق رتيبة خائبة، كأن نكرر حرفاً ما بطريقة مبالغ فيها، أو نكرر كلمة كاملة، أو نكرر بناء الجملة على أكثر من سطر.. الخ.
بعد كثير تدبر خلصتُ إلى أن "قصيدة النثر" التي أكتبها ليست مطالبة بكل تلك الأشياء، ولا تحتمل كل تلك الحمولات الفنية التي تخص القصيدة الكلاسيكية أو التفعيلية في أحسن الأحوال، لذلك أجدني في مرحلة ما ألجأ إلى تضمين نصوص ومعارف ثقافية متنوعة كالقرآن والكتب القديمة والموسيقى والفن التشكيلي والموروثات الشعبية.. الخ، وفي مرحلة أخرى أخاصمها جميعًا وألجأ إلى المشهدية، أعكس ما يدور حولي دون أن أتدخل فيه، وفي مراحل أخرى أصغي إلى صوت الطبيعة وأتمثله، وهكذا.. دون قانون سوى قانون القصيدة.
لا قانون يحكم النصوص سوى قانون القصيدة، وتحررت من وهم القدماء
بعد سبعة دواوين كيف يمكن تقييم تجربتك الشعرية الآن، خصوصًا أن شعراء كبارًا كصلاح عبدالصبور وحجازي وأمل دنقل لم يصدروا هذا العدد من الدواوين؟
تجربتي ليست منفصلة عن تجربة الجيل الذي أنتمي إليه، بدأنا الكتابة والنشر في مرحلة مرتبكة شعريًّا. سبقنا إلى الساحة جيل اصطلح على تسميته جيل السبعينيات، يعتقد شعراؤه ونقاده أنه الأفضل، وأنه حرر القصيدة من جمودها وحرر اللغة.. إلخ، أتوا إلينا بتجارب لبنانية مغرقة في التهويم والغموض، ذاهبين بالمجاز إلى حد غير مقبول فانفصلت القصيدة عن محيطها، عن قرائها ونقادها وناشريها وحتى شعرائها أنفسهم، لا يكاد أحدهم يفهم ما يريده الآخر، ويتم تقييم الشعر بحسب غموضه وافتعاله للمعارك الفنية والخاصة. كان طبيعيًّا أن ننساق إلى هذا الشكل بعض الوقت، فصدرت الدواوين الأولى لبعضنا ليست بعيدة عن هذا الفهم للشعر، إلى أن تحررنا من هذا المفهوم ومن هؤلاء الشعراء.
الغريب أنهم عندما يعددون الشعراء لا يذكروننا، كأننا جيل غير موجود أصلاً، بالرغم من كوننا الأكثر تأثيرًا في المشهد الشعري العربي برمته، على الأقل لأننا نحن الذين كتبنا "قصيدة نثر" حقيقية، لم نفتعل معارك وهمية، ولم نكسر الإيقاع بدعوى الحداثة، وإنما كسرنا الفهم القديم للشعر نفسه.
دواويني الثلاثة الأولى تفعيلية، وإن كانت تنتصر للمضمون أحيانًا على حساب الشكل، فلو كان ثمة تعارض بين الإيقاع الخليلي وبين ما أريد توصيله، كنت أضرب بالتعليمات عرض الحائط، وفي ديواني الثالث ديوان الزجاج، قلت في إحدى قصائدي إنني استنفدتُ إيقاع القصيدة، ودعوت نفسي إلى البحث عن شكل جديد. وقتها كنت أكتب تجارب نثرية عابرة لا أنشرها، ولا أعترف بها حتى، إلى أن جاء منتصف العام 1995 الذي تحولت فيه إلى كتابة "قصيدة نثر" خالصة، ولم أعد إلى كتابة التفعيلة من وقتها.
اتحفط على العملية النقدية العربية، وتجربتي طورت نفسها
وماذا عن الدواوين الأربعة الأخيرة، ومنها "من أجل امرأة عابرة"؟
هذه الدواوين كتبت على غير مثال، وأتصور أن التجربة خلالها طورت نفسها بنفسها ومازالت، فنحن نكتب نوعًا أدبيًّا جديدًا قابلاً للإضافة والحذف واقتراح جماليات جديدة لم تكن معروفة في الشعر الكلاسيكي. من يقرأ نتاج "قصيدة النثر" في السنوات الخمس عشرة الأخيرة، ومنها دواويني، يستطيع أن يلاحظ المحاولات الدءوب للفكاك من أسر الجماليات القديمة لصالح جماليات أخرى مختلفة، كأن تكون القصيدة قصيرة شديدة التكثيف كطلقة، وأن تتخلى نهائيًّا عن مجاز الصورة التي كانت تصنع مفارقة في كل سطر شعري وبين كل كلمتين متجاورتين، لمصلحة مجاز القصيدة كوحدة بنائية كلية تصنع مفارقتها مع الموجودات حولها: اللغة والإيقاع والأشياء والوجود والعالم.. الخ، أنا أعتقد أن تجربة "يوميات قائد الأوركسترا" هي الأوضح في هذا النهج، على الأقل لأنها محاولة لكتابة الشعر بمزاج اليوميات بما فيها من تسجيل وصدق وواقعية واهتمام بالذاتي والآني.. إلخ.
هل تعتقد أن تجربتك لاقت ما تستحقه من متابعة نقدية؟
بشكل عام لا أشتكي من قلة نقد أعمالي، لكنني أتحفظ على العملية النقدية العربية بشكل عام، وأرى أنها تنقسم إلى قسمين: الأول غارق في التنظير الذي يحاول ركوب موجة النظرية النقدية، والثاني يتعلق بالنقد التطبيقي وهو غارق في المجاملة الشفهية، والمكتوبة أحيانًا. وهما معًا عاجزان عن استيعاب المشهد الإبداعي المصري والعربي واستباق تجاربه، المضحك في المشهد الإبداعي العربي حقًّا أن النقد يمكث سنوات لكي يستوعب ما يحدث على أرض الواقع الإبداعي، خلالها يضطر المبدعون إلى سد الفجوة بالاتجاه إلى كتابة النقد في أوقات الفراغ!