كيف هي المرأة في بلادنا؟
"أنت لا تعلمين كيف هي المرأة في بلادنا، تكتم كل شيء ولا تشكو ولا تعبر وتعمل كل شيء و تسيج نفسها بالصمت والأسرار" وصف دقيق للمرأة الفلسطينية بكامل صورها البسيطة الممكنة، جاء على لسان الياس خوري في رواية " باب الشمس"، يصفها للممثلة فرنسية جاءت إلى مخيم " شاتيلا" لتمثل دور امرأة فلسطينية فقدت عائلتها، في مسرحية كانت تعدها.
الرواية التي استخدم فيها خوري خيوط حياة لأناس حقيقيين بأسمائهم الحقيقية، خرجوا من فلسطين " الجليل" إلى لبنان في عام النكبة والهجرة 48، تبدأ الخيوط من بداية الرحلة مرورا بكامل تفاصيلها لتقف على عتبة التسعينات، نسجها بشكل روائي عميق يعود فيه حينا إلى ما قبل البداية ويتطاول حينا آخر ليرنو إلى مستقبلهم المجهول…
تتمحور الرواية حول " يونس " أحد أبطال المقاومة الذي ترك عائلته في فلسطين المحتلة وهاجر إلى لبنان، وكان دائم المغامرة يتسلل إلى الجليل ليزور زوجته…ويقوم بعمليات عسكرية ضد الدولة العبرية، اتخذ من مغارة في الجليل مقرا له في رحلاته، وأصبح يرى العالم من خلال زوجته التي كانت الإنسانة الوحيدة التي يراها، وكيف أسمى مغارته " باب الشمس" لأن نهله الجديدة " كما يقول" ولدت هناك .
باب الشمس
ونهلة الزوجة وصلت مع عائلة زوجها من قرية عين الزيتون التي دمرها الصهاينة، إلى قرية دير الأسد لتسكن أحد البيوت التي تركها أصحابها وهاجروا من القرية …ويبدأ القصة…
فنهلة الفتاة البسيطة اختفت لتحل مكانها المرأة القوية الصلبة، عليها أن تعتني بوالد زوجها الشيخ الضرير، وأن تبحث عن عمل لتربي وتعيل أطفالها الذين راحوا يكثرون مع كل زيارة لباب الشمس، ويتعين عليها أن لا تحدثه إلا بما يسره وأن تعيش كامل تفاصيل شقائها وحدها…
وبعد عشرين عاما، تشكو له أنها تعبت من التعب وهي امرأة فقيرة ووحيدة، تخبره عن مشاكل أطفالها الذين كبروا…حسن سيتزوج…ونور ستتخرج… وسالم اشترى ورشة…وصالح ومروان…تخبره كيف واجهت المحققين مع كل مولود تنجبه، وتضطر لتقبل اتهامهم لها بالخطيئة على أن تخبرهم عن مكانه، وكيف كانت تجمع له الأموال التي يطلبها لشراء السلاح، ويتذكر حين سألها يوم إصابته في كمين إسرائيلي في إحدى مرات تسلله، عندما ذكر لها أن كيسه الذي يحمله على ظهره طوال هذه السنوات قد ثقل فما حال كيسها، فصمتت وردت عليه بابتسامة عريضة، ليكتشف أنه لم يكن يعرف طوال تلك السنوات ولم يدرك معنى ابتسامتها وأنها كانت تخفي كل شقائها لترضيه وتظهر في أبهى صورها بينما ينصرف هو لعمله الوطني فقط.
صفوف الجهاد الأولى
وفي القريب الغير بعيد كن فتيات لا تتجاوز أكبرهن30 عاما، يلففن أنفسهن بأحزمة ناسفة و يفجرنهن في مواقع العدو..، يتبعن خطى شادية أبو غزالة أول من قامت بعملية عسكرية 1من الفلسطينيات ضد الجيش البريطاني، وخطى دلال المغربي في عمليتها الاستشهادية عام 67، حيث اشتركت مع رفاق لها في زورق بحري ونزلت على الشاطئ الفلسطيني وركبت الحافلة من أجل أن تقاتل وهي تعرف أنها ستستشهد…قالت إحداهن والتي لا يتجاوز عمرها 22 عاما، ولم يصقل شخصيتها صخور طريق الهجرة والتشتت وإنما تراكمات لصور رأتها وهي ترنو بنظرها من تلة بيتها في نابلس نحو الجنازات اليومية لتكتب مودعة:" ولأن دور المرأة المسلمة لا يقل في شأنه عن دور إخواننا المجاهدين، فقد قررت أن أكون ثاني استشهادية وأهب نفسي رخيصة في سبيل الله سبحانه وتعالى انتقاما لأشلاء الشهداء ولأن الجسد والروح كل ما نملك فإني أهبه في سبيل الله ليكون قنابل تحرق الصهاينة… وندمر أسطورة شعب الله المختار لأن المرأة الفلسطينية المسلمة كانت ولا زالت تحتفظ بمكان الصدارة في مسيرة الجهاد ضد الظلم…فإنني أدعو جميع أخواتي للمضي في هذا الدرب…"، وتتابع دارين أبو عيشة في وصيتها قبل قيامها بعملية استشهادية على حاجز " مودعين " بالقرب من رام الله في السابع والعشرين من شباط الماضي:" وليعلم الجبان شارون بأن كل امرأة فلسطينية ستنجب جيشا من الاستشهاديين وإن حاول وأدهم في بطون أمهاتهم على حواجز الموت…وإن دور المرأة الفلسطينية لم يعد مقتصرا على بكاء الزوج والأخ والأب بل أننا سنتحول بأجسادنا إلى قنابل بشرية تنتشر هنا وهناك لتدمر أمن الشعب الإسرائيلي".
ننظر إلى أفق النصر
بينما تصف كل هذه الأشكال من المقاومة ليلى خالد إحدى ألمع الأسماء في مسيرة النضال الفلسطيني، والتي اشتركت مع مجموعة من رفاقها في خطف الطائرات، تصف العمليات الاستشهادية والدور الذي تقوم به المرأة الفلسطينية الآن:" أنا أقول أن المقاومة هي من أجل أن ننتصر ونحيا وليس من أجل أن نموت ولكن عندما يتطلب الأمر أن نموت ، فنحن على استعداد، ويكون الهدف أن يقطف غيرنا ثمار هذا الموت" المقاومة" فيقطف النصر…أنا مع كل أنواع المقاومة، والمرأة تستطيع أن تتقن كل هذه الأنواع حسب المرحلة التي تعيش فيها، فنحن في السبعينيات كانت عمليات خطف الطائرات تحدث أثرا إيجابيا على القضية الفلسطينية فاشتركت بها المرأة وأبدعت ولكن في المرحلة الحالية هذه العمليات لا تجدو نفعا، فابتكر الفلسطينيون العمليات الاستشهادية والتي أصبحت الورقة الرابحة في أيديهم، وأيضا و أيضا اشتركت بها المرأة وأبدعت، نحن ننظر من خلال كل أنواع المقاومة إلى أفق النصر حيث نعيش بكرامة وحرية…".
وبين بساطة التفاصيل واللجوء والتشتت وتبادل الأدوار في " باب الشمس " وبين عظمة العمل الجهادي في القصص التالية تتماوج آلاف الصور لهذه المرأة، صور مطمورة ولكثرة تكرارها اعتقدنا أنها طبيعية ولكن الحقيقة الواضحة تبرز عندما تخرج من المجتمع الفلسطيني إلى أي مكان آخر، مهما كان تقدمه، فهذه الصورة تبدو خرافية مقارنة بالأخرى، وهذا الأمر الذي جعل تلك المرأة تسمو عاليا بين أبناء نوعها، وكما كل الحكايات الفلسطينية الواقعية تبرز الحقيقة الواضحة لدور المرأة الفلسطينية بعكس روايتها الخيالية " الشاطر حسن، ونص مصيص " والتي تخلو من أي دور للمرأة.
حقيقة صلابة هذه المرأة وقدرتها على الاستمرار وبالتالي الحفاظ على استمرارية أسرتها، تفاصيل بسيطة لنضال فطري للمرأة التي استطاعت بلعبة تبادل الأدوار الإجباري أن تخرج بلوحات تحدي أسطورية إلى جانب إتقانها لدورها الجهادي في الصفوف الأولى.
وقد تبدو هذه القصص لا رابط بينها لكنها بالتأكيد تمثل المرأة في بلادنا ، فكل تداعيات الحياة اليومية للانتفاضة الحالية وسابقاتها كانت تقع على كاهل المرأة، فهي أم الشهيد وزوجته وأخته وخطيبته، وهي صاحبة البيت الذي يهدم على رأسها ورؤوس أطفالها، وما يرافقه من اعتقال لكامل أسرتها… فبينما يسلط الإعلام الضوء على الحدث تكون المرأة هناك في الجانب الغير منظور للرأي العام وتمتص الصدمة ومخلفاتها ومقاومتها تأخذ كل مناحي الحياة وتتلخص في النهاية بالتمسك بالأرض…
يا صغيري لا تنم
ذكرها الشاعر الفلسطيني عبد الرحمن عوض الله في قصيدته " آن الأوان فيا صغيري لا تنم" بعد مذبحة صبرا وشاتيلا، وهي تعيش تفاصيل المذبحة يوما وتجتر أحزانها لتعاود العيش من جديد، رمز عوض الله إليها ب " عزيزة العزيزة " وذكرها وهي تخاطب طفلها المبتور نصفين في المذبحة" انهض فهذا حبلنا السري المشدود برحم الأرض والزيتون والحق المبين…انهض فهذا يومنا ولدته من وهج العواصف أغنيات الانتفاضة…آن الأوان فيا صغيري لا تنم…آن الأوان فالصبح أقبل في مناقير الحمام…" وعادت " عزيزة" علة عتبات جنين و نابلس تحدق بأطفالها المبتورين وتحثهم على السير من جديد دون أن تنكسر …
" أنا لدي ستة أولاد وبنات …أتمنى أن أقدمهم استشهاديين للوطن…" قالت إحدى الأمهات من جنين التي كانت تجلس على أنقاض منزلها المدمر وبعد استشهاد ابنها محمد…وكانت هي ذاتها في شوارع نابلس تنتظر جنازة لتطلق " زغرودة" طويلة كالتي اعتادت في قريتها أن تجامل بها أم عريس، أطلقتها وهي ترى جسد الشهيد جاسم سمارو الذي كان قد اغتالته قوات الإحتلال، نزلت من عينيها دمعة وهي التي لم تبك ابنها حين بكت فلسطين بأكملها استشهاده، وحين سألت قالت:" هذا صديق أبو هنود الحبيب …حملته سلام إليه…الآن فقط اطمئن قلبي عليه…".
أم الشهيد لم يبكها فقدان ابنها وأبكتها فرحته باجتماعه بأحبتها…هكذا هي المرأة في بلادنا…
إمتى تكبر وتثأر
وفي جنازة جماعية أخرى كانت المرأة التي لم أعرف لها اسما تحاول ان تهدئ طفلها الذي لم يتجاوز الأربعة أشهر حين شارك الكبار بكاءهم غيابهم، تهلل له لتسكته:" آه ه ه… يا محمد إمتى تكبر وتنزل عملية استشهادية وتأخذ بتار هالشهدا…" وتعيد وتكرر حتى هدأ محمد.
وفي منزل الشهيدين محمد سالم سماعنه ومحمد إبراهيم سماعنه، في قرية بيت إيبا كانت أم محمد سالم خجلة وهادئة تماما وتهدئ من روع " أم محمد إبراهيم " والتي كانت قد فقدت ابنها الثاني في أقل من شهرين، لعلها كانت تشعر بالخجل من نفسها لأنها قدمت شهيد وتلك اثنين، واستمرت في الحديث عن خصال ابن " سلفتها " محمد إبراهيم ونسيت أمر ابنها " محمد سالم " وأخذت تردد " الله يعينها على مصيبتها …ابنها الثاني…".
صورة أخرى كانت لزوجة الشهيد جمال منصور في حضورها بيت العزاء الجماعي لزوجها ورفاقه، تتنقل بين الحاضرات وتعطي المواعظ الدينية من أجل الصبر، تقول لمعزياتها الباكيات…" علينا دور ليس سهلا على الإطلاق فالمرأة بصبرها وإيمانها ومعنوياتها العالية، تكون كالطبيب النفسي الذي يستأصل المرض قبل استفحاله، ويساعد الناس ويصبح القدوة في الصمود والجلد على المعاناة…" وعندما تقدمت إليها إحدى المعزيات وكانت تحمل طفلها الرضيع نسيت نفسها وراحت تمسح دمعاتها وتنصحها بعدم البكاء لأن ذلك سيؤثر على نفسية طفلها الذي يرضع من حليبها…
وفي غزة كانت أم الاستشهادي محمد فرحات تهيئ ابنها للشهادة مخاطبة العالم:" والله لقد ضرب شباب فلسطين المغاوير أسطورة المقاومة والجهاد للشعوب وكفاحها ضد الظلم والعدوان…فليتعلم العالم منا هذا الكفاح وهذا الصبر من أجل أن ترتفع راية الإسلام فوق ربوع وطننا السليب كما كانت، وترجع الحقوق إلى أهلها الحقيقيين …وإني لأناشد أخواتي الفلسطينيات أن يقفن من وراء إخوانهن وأزواجهن وآبائهن يشاركنهم في الجهاد بالصبر والثبات…".
العودة إلى الأرض
وليس بالبعيد عن كل هؤلاء كن النساء الريفيات في القرى الفلسطينية، فبعد أن أغلقوا المعابر في وجه العمال ومنعوهم من الوصول إلى مصدر رزقهم، كان عليهن أن يتخذن موقف الاستمرار من جديد، وأن يخترعن أساليب خلاقة لرد الهجمات وكسر الحصار، فقد استرجعن ما علق في أذهانهن من أحاديث الجدات عن حواكير البيوت و خوابي الزيت والقمح، وبدأن من جديد.
فبعد أن فقد زوجها العمل كان على أم علي أن تجمع بعض خبرات جدتها ووالدتها في العمل في فلاحة الأرض، وراحت تزرعها وتعتني بها لكي يبقى بيتها مفتوحا كما قالت، " العمل في الأرض ليس بالسهل وخاصة لامرأة وحيدة لامرأة مثلي كان من الممكن أن يساعدني أبنائي لولا أن الاحتلال وضعهم في السجون…وكنا قد اعتدنا على الراحة ومن الصعب البدء من جديد ولكن لا شيء مستحيل…".
بينما أم جهاد من منطقة نابلس والتي أصبحت مسؤولة عن أربعة أطفال بعد اعتقال زوجها في الرابع من حزيران الماضي، تقوم يوميا بجمع ما تحتاجه العائلة من ثمار التين الذي تمتلك حقلا منه ومن ثم تقوم بالتسلل إلى مدينة نابلس مختبئة عن أعين جنود الدبابات التي تملا المكان في سبيل الوصول إلى البيوت التي تقع على أطراف المدينة لتبيع محصولها، وتعود مرة أخرى عبر الجبال الوعرة إلى قريتها بورين حاملة ما يسد حاجة أبنائها…
ومثلما بدأنا … هكذا هي المرأة في بلادنا، تولد من جديد …مع كل أزمة وكل مصيبة، تكون بالنسبة لها مغارة باب الشمس التي تصقل شخصيتها، وتختفي بها مظاهر الضعف والليونة وتبدأ بالعمل وتكتم كل شيء ولا تشكو ولا تعبر وتعمل كل شيء و تسيج نفسها بالصمت