بنوك جديدة للاستثمار
انتشرت بين الناس حالة مبررة من فقدان الثقة في الاستثمار المالي والعقاري بعد انهيار سوق الأسهم وبعد أن طارت طيور المساهمات العقارية بأرزاقها مرفرفة بأحلام المستثمرين في أفق مظلم، ويبدو أن المواطن بحاجة لسنوات حتى يستعيد ثقته في هذه الاستثمارات وربما عشرات السنين حتى يستعيد أو يدخر رأس مال يؤهله للاستثمار من جديد... وسط تلك الرؤية السوداوية ثمة بارقة أمل لاستثمار جديد له عوائد وفوائد وهو استثمار لايعيبه سوى ارتباطه بكلمة (بنوك) التي أصبح لدى البعض حساسية منها بعد تجارب مأساوية، مع فارق هام وهو أن البنوك الجديدة تدعوك للاستثمار في ما هو أغلى من المال، وتبشرك بأنك إذا لم تربح في نهاية المطاف فأنت لن تخسر على كل حال.
(بنوك الخلايا الجذعية) هي بنوك للاستثمار من أجل صحتك وصحة أبنائك في المستقبل، والمدهش أن القرار الاستثماري فيها تملكه النساء فقط في لحظة الولادة حيث بوسع الأم أن تمنح للمستشفى أو الطبيب الحق في سحب الدم من المشيمة قبل قطع الحبل السري ومن ثم نقله وتجميده في حاويات خاصة تودع في رصيد شخصي بأحد بنوك الخلايا الجذعية مدى الحياة أو لعقود من الزمان كإجراء احترازي حيث يمكن استخدامها إذا أصيب الطفل مستقبلاً أو أحد أفراد عائلته بمرض مستعصٍ ليتم علاجه بالخلايا المحفوظة التي تؤكد الأبحاث والتجارب أنها كفيلة بعلاج جميع الخلايا التالفة في جسم الإنسان... وقبل أن يعتقد القارئ الكريم أنني أتحدث عن عملية خيالية لازالت في طور البحث فلابد أن أذكر أنني أستند في مقالي إلى تجربة محلية واقعية عايشت فصولها مع الزميلة (ردينة دشيشة) التي أعدت مادة صحفية حول هذا الموضوع وفي خلال أسبوع كانت تستقبل مولودتها الأولى وتخوض التجربة العملية فتستخرج لها (بوليصة تأمين) صحية من حبلها السري أثناء الولادة في عملية استغرقت أقل من 5 دقائق، دون أن تشعر بها هي أو مولودتها.
هذا الاستثمار شأنه شأن غيره من الاستثمارات حتى ينجح لابد من أن يصاحبه وعي استثماري لدى الأفراد مدعوم بإمكانيات وآليات يوفرها القطاع الحكومي والخاص... فبعد سنوات من التجارب والأبحاث ثبت علمياً أن الخلايا الجذعية التي كانت تؤخذ من دم وعظام الإنسان البالغ أو من الأجنة هي ذاتها الموجودة في المشيمة ليغني ذلك الاكتشاف عن الوسائل المؤلمة أو التي كانت تواجه اتهامات بأنها (غير أخلاقية) أو يمكن استخدامها لأغراض مثيرة للجدل مثل الاستنساخ وغيره، فتم تقنين كل ذلك وتحويله إلى عملية مشروعة وبسيطة وأخلاقية تؤكد أن الله قد خلق لكل داء دواء وأن الثروة الموجودة في المشيمة والتي كان مصيرها منذ بدء الخليقة سلة المهملات قد اتضح أنها العلاج الآمن للأمراض التي استعصى على العلم إيجاد عقاقير ومركبات صناعية لعلاجها بشكل تام.
الخلايا الجذعية المسحوبة من المشيمة ليس بوسعها تكوين جنين ولكن بوسعها تكوين أي نوع آخر من الخلايا الموجودة في جسم الإنسان مثل خلايا القلب أو الأعصاب فهي تعالج أمراض مثل الشلل وتغني عن عمليات زراعة الكبد، بالإضافة لعلاج (الزهايمر) ومرض (باركسون) و(السرطان) وأمراض الجهاز المناعي والعصبي بشكل عام... وقد تجاوز العلم مراحل الأبحاث إلى التطبيق فوفقاً لأحد المراكز المتخصصة في (نيوجيرسي) تم حتى الآن علاج 3500 حالة مرضية تقريباً عن طريق الخلايا الجذعية المستخرجة من الحبل السري بنجاح، وعولجت على سبيل المثال طفلة أمريكية كانت تعاني من مرض عصبي بواسطة الخلايا الجذعية المستمدة من الدم في حبل ولادتها السري وشفيت من مرضها تماما... كما عولجت طفلة أخرى كانت تعاني من فقر دم فرانكوني بالحبل السري لأخيها المولود تأكيداً على أن الخلايا الجذعية التي تتوافق مع أنسجة المولود المأخوذة منه بنسبة 100% قد تتوافق مع أقاربه من الدرجة الأولى بنسبة 85%.
وإن كان القرار الاستثماري في الخلايا الجذعية هو قرار نسائي غالباً فلا بد من الإشارة إلى النبوغ النسائي الذي حققته الدكتورة السعودية إلهام أبو الجدايل في هذا المجال حيث أحرزت في أبحاثها تقدماً يتابعه العالم لعلاج الأمراض المستعصية بواسطة الخلايا الجذعية.
كل ذلك يحتم علينا عدة أمور، أولها دعم البحث العلمي في هذا المجال... وثانيها المسارعة لتأسيس بنوك للخلايا الجذعية في مختلف أنحاء المملكة علما بأن ما يتوفر لدينا اليوم -على حد علمي- (بنك خاص) يمكن للأم أن تفتح فيه رصيداً شخصياً تحفظ فيه الخلايا الجذعية لوليدها وتتكفل بتكاليف حفظ العينة وتصرفها متى ما احتاجت لذلك بإجراءات دقيقة لاتختلف كثيراً على إجراءات البنوك المصرفية، أما المفقود فهو (البنوك العامة) التي انتشرت حول العالم والتي تستثمر فيها الدول لمواطنيها حتى يصبح بوسع من لاتملك تكاليف هذه العملية أن تتبرع بالخلايا الجذعية عند الولادة فتحفظ في (بنك الخلايا الجذعية العام) تماماً كما يحفظ دم المتبرع في (بنوك الدم) التقليدية ويصبح لاحقاً بوسع المرضى شراء الخلايا الجذعية التي تتوافق مع أنسجتهم لعلاج الأمراض التي يعانون منها، وهذا ما أقدمت عليه شقيقتنا دبي حيث تتوفر وفقاً للبروفيسور حسان عبدالجبار البنوك العامة للمواطنين والخاصة للمقيمين وللمواطنين الذين يفضلون حفظ خلاياهم الجذعية في بنك خاص للاستفادة الشخصية منها عند الحاجة.
والمطلوب بعد ذلك - أو ربما قبله - هو تعريف وتوعية المجتمع بهذه المعلومات فلا الأم ولا جنينها يتعرضان لمخاطر في حال سحب الدم من المشيمة أثناء الولادة لحفظها حصرياً للمولود وأسرته أو التبرع بها لبنوك عامة تتبع لوزارة الصحة، ولعلنا أيضاً نتجه إلى تحديث معلومات أطبائنا الأفاضل فمع الأسف الشديد بالرغم من أن هذه العملية البسيطة تجرى حول العالم يومياً منذ سنوات، وتجرى محلياً منذ عامين تقريباً إلا أن عدداً من الأطباء لدينا لا يملكون أي خلفية عنها مما يعني أننا بحاجة لحملات تستهدف المختصين قبل العامة.
رئيسة تحرير مجلة عربيات الإلكترونية
[email protected]
المصدر: صحيفة عكاظ