عفواً أيها القانون
أجمل تعريف للقانون هو أنه ببساطة (علم اجتماعي) موضوعه الإنسان الذي يفترض أن تتم دراسة طبيعته وسلوكه وردود أفعاله ومن ثم يوضع القانون بهدف تنظيم حياة المجتمع بشكل يناسب أفراده ويحول دون وقوع الفوضى... فالإنسان هو حجر الأساس لبناء القوانين وبما أن للإنسان في كل مجتمع خصائصه وخصوصياته فهذا يعني أن القانون ليس منتجا قابلا للاستيراد والتوريد بقدر ماهو نصوص يجب أن تفهمنا لنفهمها ومن ثم تتحول إلى نظام حياة... وحتى يتحقق ذلك لابد من أن ترافق صياغة القوانين دراسات اجتماعية يتبعها إعلان وحملات توعية تنتهي بتفعيل تام لايقبل الاستثناء حتى يحظى هذا القانون باحترام جميع فئات المجتمع وتصبح له سيادة.
من المؤسف أن بعض قوانيننا القديمة لم تخضع للتحديث رغم كل المستجدات التي طرأت على الحياة وعلى الإنسان، ومن المحبط أن تخرج قوانين جديدة دون آلية تطبيق أو متابعة للتفعيل، ومن المؤلم أن يعتقد من يضع القوانين أن تعريفها ينحصر بتحديد العقوبات وتأطير مساحات التجدد والاستثمار والتطور.
لنتلافى الخلل والثغرات يجدر بنا إنشاء مراكز للبحوث الاجتماعية ترتبط بالوزارات وتزوّدها بدراسات تكشف عن طبيعة المواطنين وسلوكياتهم وآلية تعاملهم ليتمكن واضعو القوانين من الالمام بتلك الدراسات إلى جانب التطلعات... وبمعنى آخر لابد في كل وزارة من وجود مصوّر محترف ينجح في التقاط صورة للواقع وفنان محترف يملك القدرة على رسم صورة المأمول ليضع المسؤول الصورتين أمامه ويبني جسورا من القوانين التي تساعد على الوصول من الواقع إلى المأمول.
مازلت أنظر باحترام كبير لإحدى تجارب هيئة الاتصالات وتقنية المعلومات ضمن مساعيها لوضع تشريعات جديدة... فعندما انطلقت خدمة الإنترنت في المملكة انطلقت معها حملة (نصب و احتيال) واسعة الانتشار من أفراد يدّعون قدرتهم على تصميم مواقع الإنترنت وبرمجتها واستضافتها وهم يراهنون في تسويق خدماتهم على جهل المجتمع وحداثة عهده بخفايا هذه الخدمات، فكان يكفي أن يضع شخص ما باسم حركي إعلانًا في منتدى يدّعي فيه أن بوسعه تقديم هذه الخدمات مع رقم حساب بنكي حتى يتدافع الراغبون بتأسيس مواقع الكترونية عليه محسنين الظن به والنتيجة يجمع المحتال الأموال ويختفي أو يقدم تصاميم وبرامج مسروقة و لا عزاء للمغفلين... وقد كان بوسع هيئة الاتصالات وتقنية المعلومات أن تهدر أموالا طائلة في حملات توعوية إنشائية أو تعلن عن عقوبات رادعة يستحيل تطبيقها مع وسائل التخفي التي توفرها التكنولوجيا الحديثة، ولكنها أحسنت بأنها لم تفعل ذلك واتجهت إلى إصدار تراخيص رسمية لمن يرغب في ممارسة هذا العمل بشروط مقبولة وأساسية وضمانات منطقية وإجراءات سريعة، فأدت تلك الخطوة تلقائياً مع تزايد عدد المؤسسات الفردية والشركات المرخص لها بتقديم هذه الخدمات إلى فضح المحتالين وكساد سوقهم، كما رفعت من مستوى الوعي لدى المواطنين فبات من يرى تلك الإعلانات العشوائية القديمة يسأل مباشرة عن ترخيص الشخص الذي يعرض خدماته ومقر مؤسسته وأرقام هواتفه.
هذا نموذج من القوانين التي تهدف إلى تقويم الخطأ وتفرض نفسها على المتعاملين باحترامها لحقهم، ذلك الحق الذي يفترض أن نمنحه أولاً قبل أن نفكر بالتهديد بالعقوبات... وفي المقابل هناك قوانين لانملك أمامها سوى أن نعتذر منها ونطالب بإعادة النظر فيها.
عفواً أيها القانون..كيف لسيدة أعمال أن تحترم القوانين التجارية التي تفرض عليها إذا أرادت أن تمارس نشاطا ما فعليها صورياً أن تعمل تحت مسمى نشاط آخر رغم أن المسؤول يعلم ولكن القانون المكتوب لم يجرِ تحديثه منذ عقود طويلة وبالتالي لابد من التحايل عليه حتى إشعار آخر؟.
عفواً أيها القانون..كيف يمكن لقطاعات تتعامل مع عموم المواطنين أن تضع قوانين وعقودا واتفاقيات تعتمد في تسويقها على جهل المواطن لتستغله تحت شعار (القانون لايحمي المغفلين) وتضيف إلى ذلك الشعار بدهاء خفي قاعدة خبيثة تجعل (القانون يحمي المتلاعبين والاستغلاليين) فتتكرر عمليات المساهمات الوهمية والقروض العشوائية التي تتآزر مع بعضها بقاسم مشترك هو إجادة العزف على أوتار المحتاجين والحالمين للتغرير بهم في نهاية المطاف وفقاً لعقود أحسن من كتب بنودها في قراءة جمهوره المستهدف ومعرفة نقاط ضعف البسطاء لتوظيفها لصالحه بينما غابت عن المشهد التشريعي جهة كان بوسعها أن تتدخل مبكراً وفقاً لمؤشرات اجتماعية تسن في ضوئها قوانين عامة وأساسية تناسب ثقافة المجتمع وتحسن مخاطبته فتحمي المواطن؟.
عفواً أيها القانون..كيف يسيء البعض استغلال مساحات الحوار وحرية الرأي التي ما إنْ بدأنا نحتفي بها حتى وجدنا من يشوه وجهها الحضاري بتصرفات غوغائية تفسد المنتديات والملتقيات والندوات؟ كيف تتدخل الجهات المعنية بعد فوات الأوان ووقوع الفوضى بينما بوسع قانون صريح وتواجد أمني مبكر أن يحول دون وقوع ذلك ليجبر جميع الحضور على احترام آداب المشاركة أو مغادرة المكان مباشرة وبهدوء؟.
عفواً أيها القانون..كيف تعجز مطلقة عن الحصول على نفقتها وحقها في حضانة أطفالها وممارسة حياتها من جديد لتواجه عنوة مصيرًا لا مفر منه في تقديم تنازلات مجحفة فتهدر كرامتها لتتسول حقها أو نقدم لها حلولاً مغلّفة بالذّل لتتزوج مسياراً ومصيافاً؟.
تفقد القوانين قيمتها ويخطئ التقدير من يضعها عندما يتأخر فيصدرها مكتفياً بكونها (ردة فعل) المشكلة بينما القوانين الناجحة هي (الاستباقية) التي تستشرف المستقبل وتسبق وقوع الخطأ فتمارس دورها في التقويم والتنظيم قبل فوات الأوان.
رئيسة تحرير مجلة عربيات الإلكترونية
[email protected]
المصدر: صحيفة عكاظ