ميلادها مغامرة كبرى !
كانت تتحدث إلي وهي تذكر اسمي المتواضع، فكان رنين اسمي على أذني يمس شغاف روحي ويداعب أوتار غروي.. تصغي إلى كلماتي بحنان كأنني أنطق الدرر! فشعرت أن إصغاءها أرض مطار تهبط عليها طائرة البوح. طوبى لحروفي الشاردات و قد آوتها تأملاتها السامية بكل هذا العلو، ودثرتها كلماتها الغالية بكل هذا الحنو! ليتني آتيها بالسعادة من بتلات الورد التي تلدها في وريد الجمال.
بصيص نــور يوقـَد بشــمعاتٍ فتنير الدروب المظلمة وتمحو الآثار الضيقة لتفسح للعقل طريقاً من ضياء ونور.. هكذا أجد نفسي بجوار الياسمين ومعظم الزهور النقية .. تماما كفرحتي بحوارها - أكثر من مرة - بل كان وجودها ضمن دوحتي كسنابل ذهبية عانقت خد النسيم ..وانساب الحوار بيننا كانسياب ماء عذب في جدول رقراق ..كلماتها النابضة كانت تضخ الإشراق في ملامحي فتتسارع ألوف الابتسامات .. خاصة وهي تسألني و نحن نقترب من شاطئ الحوار: متى تأتين إلى منزلي في القاهرة فألتقي وأرحب بكِ بنيتي؟ في أعماقي رقصت خلاياي كل رقصات العالم.. يا الهي!
وفي رأسي دارت الأفكار التي نمت في ذهني قبل ان التقيها للمرة للأولى.. حيث كنت سعيدة لأنني سأقابل الأديبة الكبيرة التي قرأت لها وقرأت عنها لسنوات طويلة، ولحظتها تذكرت قصة الكاتب النمساوي "ستيفان تسفايج" عن الرجل الذي دخل السجن ولم يجد ورقة يقرؤها ، فراح يروي لنفسه كل ما حفظ من الشعر، وبعد أن فرغ من ذلك راح يقرؤه بالمقلوب.
والآن إذا عرفني تسفايج ربما كتب عني! غير أنني لم افعل ما يستدعي السجن، لذلك قررت أن اسجن نفسي بنفسي لأظل من قراء أعمالها يمينا و شمالا.. بالمقلوب وبالمعدول.
وإذا كان ميلاد كل منا - كمال قال سلامة موسى - مغامرة مع القدر فإن ميلاد فتحية العسال مغامرة كبرى! وأعرف أن لسلامة موسى تأثير كبير في نفس الكاتبة السامقة " فتحية العسال " فـ أول كتاب قرأته في حياتها كان " عقلي وعقلك " للقدير سلامة موسى.
ها هو قلمي يرسل تحياته إلى قلم لا يوازيه ضوء القمر ولا حتى دفء الشمس، قلم دامت رحلته أكثر من نصف قرن، وربما بدأ متأخرا نسبيا لعدم معرفته الكتابة حتى سن الشباب!
انطلقت أديبتنا من مدارس محو الأمية إلى مدرسة الحياة والإبداع، وبات سلاحها قلم مبدع مفعم بالحرية القادرة على إثبات الذات..تقول كنت كلما أمسكت جريدة أو كتابا أشعر كأنني امتلكت العالم ، فقد ولدت في عصر كان الآباء يرون أن مكان الفتاة المنزل، حيث تكبر ثم تتزوج، وتعيش تربي أولادها وتخدم زوجها فقط، لهذا حرمت من التعليم في سن مبكرة بقرار من أبي، إذ أخرجني من مدرستي في سن العاشرة، وعندما تعلمت ـ فيما بعد ـ القراءة والكتابة أحسست بأني امتلكت ثروة، فأجمل ثروة للإنسان حين يحس بعالمه وعصره من خلال ما يقرأ.
فتحياتي لسموّها بعبق ياسمينة لم تقطف بعد!
بدأت أستاذتنا الألقة فتحية العسال الكتابة الأدبية عام 1957، وهى تلعب على وتر القضايا الاجتماعية عامة وقضايا المرأة بشكل خاص سواء في الدراما التليفزيونية والتي قدمت فيها عددا كبيرا من المسلسلات ذات الطابع الاجتماعي؛ نذكر منها "حبال من حرير"، "بدر البدور"، "هي والمستحيل"، "حتى لا يختنق الحب"، "حبنا الكبير"، "لحظة اختيار"، و "لحظة صدق" الذي حصل على جائزة أفضل مسلسل مصري عام 1975.
كما قدمت للمسرح عدة مسرحيات نذكر منها "المرجيحة"، "البسبور"، "البين بين"، "نساء بلا أقنعة"، "سجن النسا"، "ليلة الحنة" و أخيرا "من غير كلام"..
بالإضافة إلى سيرتها الذاتية "حضن العمر" المكونة من أربعة أجزاء والتي صدرت عام 2004 من مكتبة الأسرة..
كذلك لها باع طويل في العمل العام فهي عضو مجلس إدارة اتحاد الكتاب ورئيس جمعية الكاتبات المصريات وأمين عام اتحاد النساء التقدمي وغيرها.
عاهدت نفسها أن ينقصف قلمها لو كذبت، فمن عانق حضن العمر لا يشعر بأنه سيرة ذاتية فحسب.. بل "سيرة عصر" تتمتع بالسمة التاريخية لأنها تتضمن تاريخا لسمات المجتمع في مرحلة من مراحله!
كاتبة بالفطرة.. هكذا قال لها زوجها الأديب الراحل "عبد الله الطوخي" في أول رسالة كتبها إليها أثناء فترة الخطوبة ، و بعد زواجهما دخل هو مسابقة للقصة القصيرة و فاز بجنيه فاشترى به هدية لطفلته الرقيقة و زوجته العظيمة " فتحية العسال " .
مؤلفاتها الأنيقة اهتمت بالمرأة كثيرا، كانت مصممة على إخراجها من شرنقة القهر والاضطهاد لتتحول إلى إنسان ايجابي لا سلبي. سيدة مواقف دوما، ففي بيروت عام ١٩٨٢ كانت في طليعة المثقفين الذين وصلوا هناك للالتفاف حول الزعيم الراحل ياسر عرفات ورجال المقاومة الفلسطينية واللبنانية قبل خروجهم لتونس، و أثناء العدوان الأخير على غزة الحبيبة شاركت مع مجموعة من الفنانين في وقفة احتجاجية بالشموع نظمها الاتحاد النسائي التقدمي لحزب التجمع مساء 12 يناير، تنديدا بالعدوان الإسرائيلي و طالبت العسال بطرد السفير الإسرائيلي من مصر وسحب السفير المصري من إسرائيل، بالإضافة إلى تنفيذ حكم القضاء المصري بمنع تصدير الغاز لإسرائيل .. و غيرها من المواقف البارزة .
إذن، كل عام سأحفر على أنهار الأعياد أنها " إنسانة لا تتكرر" و سأرفع أكفي تطول السماء لأمسك بموسوع المطر وأكتب : في قلبي زهرة أحبها ..واسمها فتحية العسال .