قل لي كيف تقرأ؟
مثقف قال لصاحبه: قل لي ماذا تقرأ أقل لك من أنت... فقال له صاحبه: ماذا تقرأ؟، فرد عليه الأول: من أنت؟... نكتة تناقلتها أجهزة الهاتف الجوال أضحكتني قبل أن تستدعي من ذاكرتي مقولة للسيد إبراهيم كتبي عندما سألته عن رأيه ببعض المثقفين فقال «يا ابنتي، العقل وعاء... ولكن ثمة فارق بين وعاء من الذهب قلبه ممتلئ بالنحاس وآخر من النحاس الذي يضم في جوفه ذهباً»، طلبت منه آنذاك توضيح هذه الصورة فولى ولم يعقب وكأنه أراد أن يمنحني مساحة لإسقاط الصورة على الواقع حتى أتمكن من استيعابها.
الثقافة مرتبطة إلى حد كبير بالقراءة ولو نظرنا حولنا سنجد الكثير من العقول المفكرة التي امتلأت وانشغلت واشغلتنا معها بتوافه الأمور ولا أدري إن كانت حقاً من ذهب أم أننا قمنا بطلائها بقشرة من ذهب الشهرة لتبرق وتلفت الأنظار معبرة عن مشهد مفتعل لمثقفي العصر، وأخرى بسيطة ومحدودة التفكير تقرأ كل شيء ولكنها لاتملك أكثر من موهبة حفظ وترديد ما قرأته دون أن يكون بوسعها إضافة شيء للثقافة وللآخرين، وأخيرة لم يذكرها الكتبي ربما لندرتها وهي وعاء الذهب الذي يحتوي بداخله على معمل لصناعة الذهب، أو بمعنى آخر هي الفئة التي تقرأ لتنتج، فبوسعها أن تقرأ هذا وذاك لتتشكل رؤيتها الخاصة وتعززها بالحجة وتؤهلها لمقارعة الآراء الأخرى.
قد نصاب بالإحباط عند مراجعة قائمة أكثر الكتب قراءة وأكثر المواضيع مشاهدة على المستوى العربي والمحلي، ولكن حتى لانصاب باليأس علينا أن ندرك أن نفس العناوين والمواضيع هي الأكثر رواجاً حول العالم، فكتاب عن الاقتصاد أو السياسة أو العلوم لن يلقى نفس رواج كتاب يتحدث عن الجنس أو فضائح شخصيات شهيرة... المشكلة تكمن في الفوارق بيننا وبين الغرب، فالفارق الأول هو أن هذه الحقيقة فاجأتنا مؤخراً وتحت وقع المفاجأة ذهب فريق لاعتبارها نكسة ثقافية فيما رآها فريق آخر انتصاراً لحرية الإبداع ونظرية (الصدمة والترويع) بالجرأة المبالغ فيها... الفارق الثاني أن الجرأة في عالمنا العربي تتميز غالباً بعدم وجود هدف فكاتب القصة يكتفي باستعراض قدرته على (حشر) مشاهد مثيرة مع مزجها بكلمات خادشة وإن لم يكن لها محل من الإعراب في سياق القصة، والمثقف قد يكتفي بأن يخرج برأيه عن (مِلة) الآراء المنطقية ليتميز وإن كان تميزاً لايحمل بين طياته سوى الشذوذ... أما الفارق الثالث فهو أن الأوعية التي يتم (صب) هذه الجرعات الثقافية فيها في الدول المتقدمة تختلف عن أوعيتنا لأنها عندما تتلقى الغث للتسلية يجبرها السمين الذي يحاصرها بغزارة على التزود منه بشيء من الفائدة فلا تقع بسهولة في فخ (الموضة الثقافية) الدارجة التي تحمل تاريخ صلاحية لايتجاوز الموسم الواحد كما لا يتحول كل الإنتاج والاهتمام إلى لون واحد نزولاً عند رغبة التسويق.
أعتقد أن نظرية (قل لي ماذا تقرأ أقل لك من أنت) في طريقها للزوال ففي الكثير من الأحيان لايكون القاسم المشترك بين مانفضل قراءته هو الموضوع ولكن قد يكون أسلوب الكاتب الذي يجبرك على القراءة في مجال لم يكن لك اهتمام مسبق به. وأتوقع مع تقنيات النشر الحديثة وأدوات الثقافة المعاصرة أن يتغير سؤال التعرف على الشخصية من (ماذا تقرأ) إلى (كيف تقرأ) و(متى تقرأ) فغالباً يميل الإنسان في سن المراهقة أو (حالة) المراهقة إلى قراءة الروايات العاطفية والكتب المسلية في أوقات الفراغ، بينما في مرحلة النضج يبحث عن قراءة مضمون فكري أو محتوى يثري تخصصه ويفترض أن يقرأ بهدف وأن تكون القراءة جزءاً من مساعيه لتشكيل شخصيته والتميز في دراسته أو عمله أو مجتمعه وليس لمجرد تمضية وقت الفراغ. في الماضي كان مفهوم القراءة ينحصر بالكتب ويرتبط بالورق، وكان على القارئ أن يذهب إلى المكتبة بهدف شراء كتاب في مجال معين يهواه فيقرأ الكتاب من الغلاف إلى الغلاف وينتظر إصداراً جديداً، أما اليوم فشريحة كبيرة أتشرف بانتمائي لها خرجت عن القناعة التقليدية ولم تعد تعتبر أن الورق هو الوسيط الوحيد لاكتساب الثقافة، بل أعترف أنه لم يعد بوسعي قراءة كتاب مطبوع بالكامل فبمجرد أن تلفت انتباهي فكرة في كتاب أودعه وأتجه إلى الإنترنت لأبحث عن المزيد عنها وعن التعليق عليها والتحليل لها أولاً باللغة العربية وثانياً بالإنجليزية حتى أصل إلى الآراء المختلفة حول هذه الفكرة من الشرق والغرب.
أتحيز للقراءة الإلكترونية وأدين لها بتحريري من قيود الكِتاب المتوفر والكُتّاب الذين يملكون القدرة على طباعة مؤلفاتهم إلى الإبحار في عالم الفكرة. كلنا نقرأ ولكن اختلفت كيفية القراءة فهناك من يقرأ المطبوع أو الإلكتروني أو كليهما كما أن من يتلقى نفس هذه المحتويات عبر الوسائط المرئية والمسموعة قد لايختلف مخزونه الثقافي عن من يعتمد على قراءة النص المكتوب، قريباً قد يصبح بوسعنا إذا حصلنا على إجابة (كيف تقرأ؟) أن نحدد طبيعة الشخصية وعمرها والمعلومات التي تتوفر لها أكثر من غيرها بناء على معرفة الآلية المفضلة للقراءة.
رئيسة تحرير مجلة عربيات الإلكترونية
[email protected]
المصدر: صحيفة عكاظ