الوصول إلى القمة والمحافظة عليها
قمة الواقعية أن نسمي الأشياء بأسمائها، وقمة الحكمة أن نحاسب أنفسنا قبل أن نلقي باللوم على الآخرين، وقمة النجاح الذي أحرزته (قمة الرياض) برئاسة خادم الحرمين الشريفين هي أنها انطلقت من نقطة التعبير عن مشاعر الشعوب فتحدثت بلغتهم كونها تمثلهم، وقدمت نموذجاً للوحدة التي تتلاشى من أجلها الخلافات، والجديد أننا جميعاً شعرنا بأننا كنا هناك –في القمة- نقف لنشاهد واقعنا وتطلعاتنا والمسافات الفاصلة بينهما ووسائل المواصلات الحضارية للانتقال من الحاضر إلى المستقبل المنشود.
لقد مرت الشعوب العربية بأحداث أليمة متتالية أفقدتها بعض حقوقها والكثير من ثقتها بنفسها غير أنها لم تفقد حتى الآن كرامتها ولاعقلها، فلم تكن كرامتها لتقبل بالاعتماد مدى الحياة على التدخل الخارجي لحل مشاكلها أو رسم خارطتها، ولم يكن بوسعها أن تصدق مسرحية تحاول أن تقنعها بأن التحرير هو الاحتلال، ولعل قمة الرياض عبرت عن هذا الواقع الشعبي الذي يجدر بالقوى العظمى أن تدركه قبل أن ترسم سياساتها، فالشعوب العربية والإسلامية تحرص على أن تكون جزءاً من المجتمع الدولي شريطة أن يضع هذا المجتمع إرادتها ومصالحها وكرامتها بعين الاعتبار... تلك القوى كانت ومازالت تصر على أن تعيش – أو تجعلنا نعيش – أسرى للوهم، ومن عالم الوهم صدرت ردة الفعل الأمريكية حول تسمية الأشياء بأسمائها في قمة الرياض، وهي للأمانة لاتبدو غريبة. فالأغرب قبلها كان طبيعة العمليات الأمريكية الأخيرة التي تدخل بالدول إلى غرف الولادة المتعسرة للحرية فتتوفى الأم (الوطن) والجنين (أبناؤها) وينهار سقف (مستشفى الحرية) على رأس الطبيب ومن ثم يخرج المدير من منزله البعيد عن مسرح الواقع ليعلن نجاح العملية بمكاسب سياسية لاناقة لنا فيها ولاجمل وخسائر إنسانية لنا منها نصيب الأسد... أعجب مافي الحروب المعاصرة أن لا أحد فيها ينتصر فالجميع يخسر غير أن خسائر الشعوب العربية والإسلامية ظلت تتصدر قائمة أكثر الشعوب خسارة وتزين صدرها بأوسمة أفغانستان التي خرجت من ظلمات الكهوف إلى ظلمات بحر لجيّ يغشاه موج ظاهره الحرية وباطنه صراعات دامية، وعراق تم تجريده من ثوب حضارته ليرتد إلى (زمن قابيل وهابيل) حيث يقتل الأخ أخاه ومن ثم يقفز إلى زمن (الهنود الحمر) فيرقص حول جثمانه على طبول (الفوضى الخلاقة).
ليست أمريكا وحدها من تصر على عرض الصورة المقلوبة للشعوب المغلوبة ولكن إسرائيل التي رفضت مبادرة السلام العربية ظلت تمارس نفس الحيلة التي انطلت إلى حد كبير على شعوب العالم الغربي دون أن تنجح في أن تجعل الإنسان العربي يقف على رأسه ليشاهد الحقائق المقلوبة ويقبل بها، ولازلت أذكر لحظة تجل ألقى فيها أحد المسؤولين الاسرائيليين خطبة عصماء بعد مجازر اجتياح قال فيها (أشعر بالأسف على الضحايا في الجانب الفلسطيني) واستدرك ببراءة شديدة (نحزن من أجلهم، غير أن العرب لم يعلنوا يوماً عن حزنهم لمقتل إسرائيلي وهذا هو الفارق بيننا وبينهم)... وكان بودي آنذاك أن أخترق الشاشة لأقطع له عهداً بأننا سنبدي أسفنا وستخرج الشعوب العربية في مظاهرات حزن شريطة أن تمنح الشرعية الدولية لأصحاب الأرض المحتلة حق اجتياح مستوطنة إسرائيلية مأهولة بالسكان لإبادتهم وتسوية مساكنهم بالأرض حتى نحظى بفرصة متكافئة لاختبار المشاعر.
كنا بحاجة إلى قمة تحفظ بمواقفها كرامتنا، وتواجه العالم بأخطائه دون أن تغفل أهمية معالجة أخطائنا، وكما عبرت القمة عن الشعوب اتجهت خطواتها إليهم بقناعة تؤكد أن التنمية تبدأ بالإنسان والنهضة تتأسس بالعلم والقوة تتطلب الوحدة والهوية أساس لمواكبة التقدم.
خرجت الخلافات من قمة الرياض والآمال معقودة في أن تتخرج الشعوب كذلك من جامعة الدول العربية بشهادة الوحدة، وهي شهادة كل مقوماتها التاريخية والجغرافية متوافرة لاينقصها إلا إحياء المشاعر وإدراك المصالح.
ولعل المبشر في الأمر هو أن فرصة الأمة العربية لتصحيح مسارها من خلال أبنائها تعتبر فرصة فريدة كونها أمة فتية تتميز عن غيرها من الأمم بتفوق نسبة شبابها على شيوخها مما يمهد الطريق لبناء المستقبل بسواعدهم شريطة أن ترعاها خطط تنموية عربية مشتركة... فالحضارات العظيمة لاتنفرد بها دولة ولكن تصنعها أمة مجتمعة تتوحد صفوفها وأهدافها وتتكامل إنجازاتها.
أحسنت قمة الرياض إذ استبدلت البيان الختامي بإعلان يشير إلى بداية العمل لا نهايته، وما علينا أن ندركه هو أن مساعي قادتنا قد وصلت بهم إلى قمة ناجحة، والوصول إلى القمة مهم غير أن المحافظة عليها هو الأهم.. وهذا هو دورنا جميعاً.
رئيسة تحرير مجلة عربيات الإلكترونية
[email protected]
المصدر: صحيفة عكاظ