الحرب بين وسائل الإعلام والرهان على الجمهور
جددت تصريحات (بيل غيتس) في المنتدى الاقتصادي العالمي الجدل في الوسط الإعلامي حول مستقبل وسائل الإعلام فهو لم يكتف بالإشارة إلى تهديد الإنترنت للورق بل حمل لواء التبشير بهجرة الجمهور للتلفزيون التقليدي معتبراً أنه في خلال 5 سنوات سيضحك الناس عندما يتذكرون أدوات المشاهدة القديمة. المشكلة هي أنه كلما دار النقاش حول مستقبل وسائل الإعلام القديمة والجديدة تدق الحرب طبولها بين المتنافسين وندور في حلقة مفرغة من التوقعات والتكهنات مع بعض الدلائل والمؤشرات التي قد لاتكون كافية لتكوين رؤى واضحة والأكيد أن تطور الأدوات بات يسبق تفكيرنا وخيالنا، لذلك يبدو أنه من الأفضل أن يتجه الإعلام إلى دراسة الجمهور بدلاً من أن ينحصر اهتمامه على الأدوات.
عند الحديث عن الإعلام الجديد أو إن صح التعبير (الجمهور الجديد) لابد من العودة إلى تجربة موقع (يوتيوب) الذي تسرد إحدى مدونات قناة BBC البريطانية قصته باختصار حيث أن أحد المدعوين بعد حفل عشاء عادي أراد أن يرسل فيلم الفيديو الذي التقطه أثناء الحفل لأصدقائه ليعرف تعليقاتهم، فما كان من اثنين من المدعوين (تشاد هيرلي) و(ستيف شين) إلا أن توصلا إلى إنشاء موقع باسم نطاق (يوتيوب) لعرض لقطات الفيديو وقد تم تصميم الموقع وإدارته من (جراج) في منزل أحدهما.
خلال عام زاد عدد الأفلام المعروضة عن 100 مليون وتجاوزت معدلات الزيارة اليومية للموقع على 70 مليون زائر من مختلف أنحاء العالم وواجه الموقع مشاكل قانونية ومادية إلى أن قامت شركة (جوجل) بشرائه بمبلغ 650 مليون دولار وهو رقم قد يصيبنا بالذهول بينما أصاب الشابين بهستيريا الضحك.
في المدونة يتساءل الكاتب ما الذي باعه تشاد وستيف في الصفقة بالرغم من وجود مواقع كثيرة مشابهة لموقعهما... والإجابة باختصار هي أنهما (باعا الجمهور)!!.
هذه القصة والكثير غيرها تؤكد أن وسائل الإعلام التقليدية كانت تستثمر رأس مال ضخم لتبيع موادها للجمهور بينما الإعلام الجديد يبيع جمهوره وقد يبدأ بلا رأس مال... كما أن الإعلام التقليدي يستأثر بالعائد الإعلاني بينما موقع مثل (يوتيوب) بدأ يدرس اليوم فكرة توزيع جزء من عائده الإعلاني على من يزودون الموقع بإنتاجهم.
وباختصار الإعلام الجديد يلعب الجمهور فيه دور البطولة فينتج مواده ويتابعها بشغف ويشارك المؤسسة في أرباحها... مع تحفظي بعد كل ذلك على كلمة (جمهور) ليبدو أنها هي التي ستنقرض لتصبح صناعة الإعلام مهمة يشارك فيها كل إنسان على وجه الأرض ويدخلها ولو من باب (الجراج).
عندما أتحدث عن الإعلام الجديد لا أقصد مطلقاً الصحف والمجلات الإلكترونية المتعارف عليها اليوم فهي الأخرى ربما في خلال السنوات القليلة التي أشار إليها (بيل غيتس) ستصبح موضة قديمة لأن الأدوات تتجدد وطبيعة الجمهور وعاداته تتبدل لتناسب نمط الحياة... وجديد الإعلام اليوم هو المدونات التي أعترف بجهلي بها وعدم استيعابي لها بالرغم من عملي في مجال النشر الإلكتروني.
المتعارف عليه لمن هو مثلي من المتأخرين عن ركب الحضارة الإعلامية أن المدونات هي مجرد صفحات يدون فيها الأفراد آراءهم الشخصية ومذكراتهم ليتمكن الزوار من قراءتها والتعليق عليها، والواقع أن أغلب كبار كتاب الصحف الغربية والمحللين والإعلاميين وأصحاب المؤلفات المطبوعة قد أصبحوا كذلك من أصحاب المدونات واستهوتهم التجربة ودارت بينهم وبين من يرفضها وينتقص من شأنها رحى الحرب... (مالكوم جلادويل) كاتب في مجلة «ذا نيويوركر» منذ عام 1996، اسمه مدرج في قائمة أكثر 100 كاتب تأثيراً على القراء كما تصدرت مؤلفاته قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في أمريكا وأوروبا... لم يتحمس (جلادويل) في بداية الأمر لتجربة المدونات معتبراً أن مشاركاته الصحفية كثيرة ومطبوعاته تحظى بإقبال كبير ووقته لايسمح إلا أنه أصبح اليوم من أهم أصحاب المدونات عندما اكتشف أن الكاتب بوسعه أن يفكر بصوت مرتفع مع القارئ ويناقش آراءه ويعترف مباشرة بتغيير وجهة نظره حيال فكرة أو قضية سبق وأن نشرها في أحد كتبه أو مقالاته فيدون ذلك.
بإمكاننا أن نخرج من تجربة (جلادويل) باستنتاج أن المستقبل لوسائل إعلام تتكامل وهو ما أؤمن به مع اعتقادي بأن موجة الإعلام الجديد وأدواته لن تجدي معها على المدى البعيد المقاومة الحالية البليدة التي جعلت بعض عباقرة المجلات المطبوعة على سبيل المثال يحاربون من أجل البقاء ويلجأون إلى إضافة ملاحق عن برامج الواقع لرفع نسب توزيع المطبوعة مؤقتاً وهم يعلمون أن هذا الارتفاع مرتبط ببرنامج تلفزيوني وأن البرنامج نفسه يعتمد نجاحه على الهاتف الجوال وكلها مقومات ضعيفة لايملكون السيطرة عليها... أما التكامل الحقيقي هو أن تتحول المؤسسات التي يقتصر نشاطها على وسيلة نشر واحدة إلى مؤسسات إعلامية تملك وسائل نشر مطبوع ومرئي وإلكتروني لإيصال الرسالة للجمهور واستقبالها منه وإدارة هذه العملية بذكاء وحرفية.
وبإمكاننا أن نخرج من تحدي (بيل غيتس) باستنتاج أن مصير الإعلام باختصار هو الدخول إلى جيب كل مواطن فهو مصير معلق بالجوال الذي يستقبل المكالمات والإنترنت والبث التلفزيوني والفيديو والأخبار ويتيح المشاركة في المؤتمرات ويناسب تطوره حالة الركض المتواصل للإنسان من مكان لآخر... قريباً قد نضطر إلى التفكير بإصدار صحيفة أو مجلة أو كتاب يتصفحه القارئ برسائل SMS أو MMS أو ربما حتى هذه التكنولوجيا سيأتي ماينافسها لنضحك عليها ونحن نستخدم غيرها.
رئيسة تحرير مجلة عربيات الإلكترونية
[email protected]
المصدر: صحيفة عكاظ