تختلف درجة تفاعلنا مع الحياة والأشخاص وتتباين ردود أفعالنا على الأحداث التي تمر بنا، فمنها ما لا نشعر به بينما يخترق غيرنا حتى النخاع.

وتستوقفني كثيراً فئة من الناس تتمتع بدرجة حساسية داخلية مرتفعة سرعان ما تلتهب وتصيبهم (بالأكلان النفسي)، التوتر لايتوقف والعقل لايهدأ والرغبة بالوصول للكمال تتجدد وجلد الذات وتعنيفها يتواصل ليتسبب في حرب داخلية بلا هدنة... قد تكون الحالة مرضية، وربما طبيعة إنسانية يدرك صاحبها أنها تشقيه ويعجز عن تغييرها باعتبارها جزءاً من تكوينه.

قبل سنوات قرأت كتاباً للراحل (عبدالوهاب مطاوع) شدني عنوانه المثير «صديقي لا تأكل نفسك»، وهي بالتأكيد الوجبة الأسوأ مذاقاً لما تحتويه من مكونات الألم وبهارات الندم... وهي كذلك الوجبة الوحيدة التي لاتتجه إلى المعدة بل تدخل مباشرة إلى مختبرات العقل ليحولها بدوره إلى ماده متفاعلة حارقة قد تؤدي إلى اشتعال داخلي يتراقص على لهيبه الضمير ويختنق من دخانه القلب... هذا الاشتعال كثيراً مايكون الوقود الكفيل بتحريك الطاقات الإيجابية الكامنة بداخل الإنسان فنجد صاحبها أوفى الأصدقاء وأنجح المديرين وأفضل الشركاء، ولكن هل هو أسعدهم؟.

هذا ما تكشفه النفس لعلمها وعلمائها، حيث تتضارب دراسة هذه الحالة في علم النفس مع مفهوم «فاقد الشيء لايعطيه» لتؤكد   أن البعض بوسعهم أن يمنحوا السعادة للآخرين دون أن يمنحوا أنفسهم فرصة كافية للاستمتاع بها.

وما أكثر مايصاب (أكلة لحوم أنفسهم) بالخيبة والخذلان إذا ما قادهم تفكيرهم إلى الاعتقاد بأن الآخرين يملكون نفس هذا الترمومتر الحساس جداً في قياس التصرفات والدقيق في قراءة الأحداث... وهم بالتأكيد قلة قد نمر بهم في الحياة مرور الكرام أو يمرون علينا لندرك أنهم أكثر الناس قدرة على العطاء وأكثرهم تفادياً لإثقال كاهلنا بالهموم... هذا هو ظاهر الأمر غير أن الدراسات تؤكد مجدداً أن باطنه يسكن بهدوء في العقل الباطن ليخفى حتى عن صاحبه، حيث اتضح أن الإنسان الذي يمضي عمره متفانياً بالعطاء دون أن يكون بالضرورة متبادلاً بينه وبين الآخرين، هو في نهاية المطاف أكثر الناس توقعاً لاسترجاع هذا العطاء يوما ما، فإذا حانت تلك اللحظة وأصيب معها بالخذلان تتفاقم حالة (الأكلان)، أو تتحول مع تراكم الصدمات إلى حالة من التبلد الحسي قد تؤدي بصاحبها إلى العزلة والاكتئاب.

المؤسف أن هذه الحقيقة يتأخر اكتشافها كثيراً وهذا ما أشارت إليه الباحثة الأمريكية (جين أندرسون) عندما قامت بزيارة عدد من المصحات ودور المسنين لتخرج بنتيجة أن 56% من نزلائها يعانون من الصدمة والخذلان بسبب أصدقاء منحوهم الثقة أو أبناء تفانوا لهم بالعطاء أو عمل تفرغوا له بإخلاص وتوقعوا أن يحصدوا ثمرة كل ذلك ولكن خالف الواقع المرير توقعاتهم فعجزت عقولهم عن استيعاب هذا النكران وانتهى بهم الحال إلى (أكل يومي لأنفسهم) في نفس المطعم الذي حذر الراحل عبدالوهاب مطاوع صديقه من دخوله منذ وقت مبكر.

قد تضعنا تلك الاستنتاجات في مواجهة حلول صعبة فمن المستحيل أن تتحول العلاقات الإنسانية إلى عملية حسابية يتم فيها حساب مانعطي ليوازي مانأخذ ولايزيد... وقد تقلب الموازين فتجعلنا نشعر أن الشخص الأناني أو البخيل بعطائه هو الفائز في معركة الحياة... غير أن ثمة توازناً بالإمكان تحقيقه، فبوسع كل إنسان أن يستمتع بالعطاء ويسعد بتضميد جروح الآخرين دون أن يتجاهل حقيقة أنه في يوم ما وفي لحظة ما عندما يكون هو من يعاني وهو من ينزف لابد أن يكون قد احتفظ لنفسه بشخص واحد على الأقل بوسعه من بين ملايين البشر أن يضع يده على موضع الألم ويوقف النزيف ويصطحبه من (مجزرة أكل النفس) ندماً وحسرة إلى قاعة الاحتفال بتجاوز الأزمات... ذلك الشخص لابد أن نقطفه من شجرة العائلة أو من بين الأصدقاء، وما أتعسنا لو لم نحسن اختياره.

رئيسة تحرير مجلة عربيات الإلكترونية
المصدر: صحيفة عكاظ