جدة.. والقط والفأر
لازلت أذكر تلك القطة التي اختارت الحرم الجامعي مسكناً لها, عرفناها في أول عهدنا بالجامعة فكانت ما أن تحل علينا متبخترة بمشيتها حتى ينفض الجمع من حولها مذعوراً... بعد عامين من العشرة ألفنا وجودها بيننا هي وبقية القطط الزميلة, إلا أنها ظلت تتميز عنهم بحجمها وملامحها العجيبة التي كانت تشغلنا في أوقات الفراغ تحت الشمس الحارقة حيث يجمعنا وإياها رصيف واحد وكنا نتأملها ونتساءل هل هي يا ترى قطة كبيرة؟ أم أسد صغير ضل طريقه إلى الغابة؟.. ظل السؤال يشغلنا إلى أن صادف ذات يوم -لا أذكر له ملامح- خروجنا من قاعة المحاضرات لحظة ارتكابها لجرمها المشهود, حيث كانت (المصونة) تحمل بين أنيابها فأراً تسيل دماؤه!! وقد كانت في الواقع المرة الأولى التي أرى فيها أسداً يلتهم أرنباً على الهواء مباشرة.. نعم, في الجامعة!!.. وفي الجامعة يتعلم الإنسان كل شيء حتى يزداد صلابة في مواجهة الحياة.
لم أكن بالتأكيد أنقل صفحة من مذكراتي عن واقعة تجاوز عمرها عقداً من الزمان, ولكني أردت أن أسوق هذه المقدمة كـ(فاتح لشهية) من يهمه أمر (جدة) العزيزة التي تحتضن القطط الضالة بكرم شديد حتى أن كل الشوارع والمنازل وصناديق النفايات أصبحت مأوى لها.
ما يزعجني حقاً هو الاستسلام لهذه الظاهرة التي لم أرَ لها مثيلاً في أي بلد آخر زرته.. أما البلاد التي لم يسعدني حظي بزيارتها وتعاني من ظاهرة القطط السائبة فقد أدركت الخطر وتداركته بخطط محكمة, ففي مدينة شنغهاي تم استخدام حبوب منع الحمل للقضاء على مشكلة تزايد أعداد القطط الضالة في المدينة..
وقد ذكرت وكالة أنباء الصين أن الحملة سيتم خلالها وضع أكثر من عشرة أطنان من حبوب منع الحمل في 300 ألف موقع مختلف في كل أنحاء مدينة شنغهاي على أمل منع القطط من التكاثر, ويأمل الخبراء أن يحقق استخدام حبوب منع الحمل الجديدة التي لا تؤثر على الإنسان ولا الدواجن ولا الماشية نجاحاً في القضاء على ظاهرة القطط السائبة..
وفي سنغافورة تم إطلاق عملية إعدام واسعة النطاق للقطط الضالة في حملة لزيادة مستويات النظافة العامة بعد تفشي مرض التهاب الجهاز التنفسي الحاد (سارز) حيث تهيم نحو 80 ألف قطة ضالة في شوارعها ولكن السلطات قالت إن الحملة ستركز فقط على المراكز الغذائية والأسواق والمناطق العامة الأخرى... وفي قبرص توقف بث الإذاعة القبرصية بانتظار وصول خبراء رش الحيوانات السائبة بمواد التعقيم بعد أن تسللت حشود من القطط إلى المكان محملة بالحشرات العالقة بأجسادها...
اما جارتنا الإمارات فقد طلبت مساعدة دولية لوضع برنامج مكافحة القطط السائبة بعد أن كشفت جمعية أصدقاء القطط عن حقيقة في غاية الخطورة وهي أن زوجاً من القطط يمكنه خلال فترة زمنية لا تتجاوز ست سنوات أن يتكاثر إلى أكثر من 420 ألف قط.. فإن كانت نسبة التكاثر المذكورة صحيحة يبدو أننا بحاجة إلى حملة تعداد (قططي) في جدة على غرار حملة التعداد السكاني لمعرفة أي العددين يتفوق على الآخر.
ولا ترمي كل هذه الجهود التي تبذلها الدول من حولنا إلى المحافظة على الوجه الحضاري للمدن فقط ولكنها جاءت لأسباب تتعلق بالصحة العامة والحد من الأمراض والأوبئة التي قد تنتج عن هذه الظاهرة.. ونبدو في حاجة ماسة إلى حملة لتطهير جدة من القطط ونقلها إلى أماكن بعيدة, وربما نحتاج إلى نقل أكوام النفايات التي تقتات القطط عليها إلى ذات المنطقة المعزولة خاصة أنها اعتادت على هذا النوع من الطعام حتى لم تعد الفئران السمينة تسيل لعابها.
وعلى ذكر النفايات لابد أن تقدم القطط شكرها لمن اخترع الحاويات المكشوفة التي تمتلئ بها شوارعنا ذلك أن اختراع الصناديق المغلقة لم يجد طريقه إلينا بعد حتى لا يحرم القطط من العبث في محتوياتها.
وعلى ذكر الفئران التي باتت تحتفل لترفع القطط عن التهامها يشتكي سكان المناطق المجاورة لمجرى السيل من ظهور هذا الكائن -الذي أدعو الله أن لا أراه حياً ما حييت- ولا يعود السبب في هذه الشكوى إلى التغيير الذي طرأ على سلوك القطط فقط ولكنه يعود كذلك إلى المياه الراكدة والقاذورات التي تسكن المجرى.. علماً بأن المجرى لا يقوم بتصدير الأمراض والحشرات والفئران إلى المنازل فقط ولكنه يخترق مناطق تغص بالمطاعم والمستشفيات!! ماذا سيحدث لو أن الفئران غزتها?... قد تكون فعلت ذلك أو تخطط لغزوتها الميمونة بينما أكتب هذا المقال.
* رئيسة تحرير مجلة (عربيات) الإلكترونية
[email protected]
المصدر: صحيفة عكاظ