أحلام العقاد وأموال بلا رؤوس
تضعني الأحلام التي رحل المخرج العالمي العقاد عاجزاً عن تحقيقها في مواجهة سؤال حائر: هل حقاً يعاني العالم العربي والإسلامي من عجز في رؤوس الأموال أو من أموال بلا رؤوس تُحسن استثمارها؟... فلا شك أن الأموال متوافرة ويجري استثمارها بسخاء في مجالات شتى, تذكرني بذلك التقرير الذي تطرقت إليه في مقال سابق بعنوان (نحن وأمريكا.. علاقة وقراءة), وما احتوى عليه من وصف لاستثماراتنا التي اعتبرها التقرير باختصار (استثمارات غير ذكية) تشهد عليها اليوم أحلام العقاد الموءودة. فالمستثمر العربي في مجال الإعلام تحديداً أثبت أنه لا يريد سوى موضوع مثير يحقق عنوانه وإعلانه أرباحاً وفيرة يضمن بها استقطاب جمهور مُغرّر به.
وهكذا بتنا لا نعرف من الفن والثقافة سوى التجارة وغابت الرسالة والقضية, فاعتدنا أن نجد أنفسنا على موعد يخلف وعده دوماً بعد أن يُعللنا بأننا سنتابع إنتاجاً ضخماً يعالج قضايا جوهرية تمسّنا, لنفيق على حقيقة أننا قد وقعنا ضحايا في شراك من يتاجر بقضايانا.
أكثر القضايا عمقاً تطرح بسطحية.. جهلاً أو عمداً؟ لا أدري!! ولكن المؤكد أننا بعد بضع سنوات سنستعيد ذكريات هذه المرحلة ونضحك وربما نبكي على كمّ الأخطاء التي ارتكبت خلالها والفرص والأموال التي أُهدرت بغرض معالجة قضايا هامة فزادتها مع غياب البعد الفكري تفاقماً بدلاً من أن تعالجها.. وسندرك يوماً مع شريط الذاكرة ماذا تعني حكمة (ليس كل ما يلمع ذهباً). فلقد كان فكر العقاد ذهباً غيّبت مقاييس اللمعان التي نعيشها بريقه, ولا يبدو أن بوسع الذهب الحقيقي أن يُبرق اليوم بينما الأموال تبحث عن أوعية فارغة من النحاس كل مؤهلاتها أنها عندما ترتطم بالأرض سقوطاً تُحدث دوياً مرتفعاً يجذب الانتباه وتصبح فوهتها قابلة للامتلاء بالذهب وابتلاعه, فلا الذهب نراه بداخلها ولا النحاس بوسعه أن يتحول ذهباً مهما أفرطنا في تلميعه بمستحضرات التلميع رخيصة الثمن.
في زمن الفقاعات كان من الطبيعي لنجم حقيقي أن يبتعد عن الأضواء الزائفة وينأى جانباً بأحلام بعيدة المنال خطيئتها أنها ترفض تقديم التنازلات لتخرج إلى أرض الواقع كيفما اتفق. ولعل الفارق الوحيد بين مشاريع العقاد السينمائية التي لم تر النور وبين غيرها من المشاريع التي تجد طريقها إلينا سريعاً هو ذلك البعد الفكري والأهداف المدروسة التي تجعل الرسالة في الفن دائماً تأتي قبل التجارة وتصر على أن القضية لا تقبل تحويرها لتفقد جوهرها على الطريق السريع للربح.
عندما بلغني رحيل العقاد استعدتُ لقاءً مثيراً أجرته معه الزميلة (مي كتبي) في عام 2003م تطرق فيه إلى الحلم الكبير الذي يعرفه الجميع عن مشروع فيلم (صلاح الدين الأيوبي), إلا أن هذا الحلم لم يكن الوحيد وربما لم يكن الأهم فقد كان في جعبة المخرج الراحل الكثير من الأحلام والمشاريع التي وُئدت على حافة أموال تفتقد لرؤوس تحسن استثمارها.
كان العقاد يتمنى أن يتحول من الإعلام الخارجي إلى الإعلام الداخلي لمعالجة التطرف بمفهومه العام الذي لا ينحصر بالمفهوم الديني معتبراً أن التطرف بمختلف صوره هو عامل لإضعاف الكائن البشري. أما الحلمان الآخران اللذان لم يتطرق إليهما أحد بالرغم من أن كلاً منهما له بجذوره التاريخية اسقاطات معاصرة في غاية الأهمية والذكاء, فأولهما ما يتعلق بالمرأة وبالتأكيد عندما يفكر العقاد بإخراج فيلم عن المرأة المسلمة لم يكن ليبحث عن ذلك الموضوع السطحي الذي يتناول تحويلها لنموذج غربي ممسوخ أو جاهلي مطموس, بل كان حلمه تقديم فيلم عن (صبيحة الأندلسية) المرأة التي حكمت الأندلس بعد وفاة زوجها باعتبارها وصية على ابنها الصغير أمير المؤمنين, فأثارت أطماع الطامعين الذين اعتقدوا أنها لن تكون بقوة وثبات الرجال إلا أنها أثبتت العكس وحققت الانتصارات وحافظت على عرش ابنها, حتى جاءت ضربة الغدر من وزيرها وقائد جيشها الذي أراد أن يستأثر بالسلطة فعزل ابنها الصغير في قصره وبدأ يصرفه إلى الزهد في الحياة والاكتفاء بالعبادة وبغض شؤون السياسة وكراهية الحكم حتى نجح في خطته وحصل منه على إقرار يفيد بأنه لا يصلح لإدارة شؤون الملك وأنه متنازل عن سلطانه إلى الوزير الذي اتجه مباشرة إلى مطالبة الملكة بالاستسلام بعد أن باءت كافة محاولاته السابقة في مواجهاته (الرجولية) معها بالفشل.. فآثرت أن تكفي بلادها شر الفتن والصراعات والحروب وانسحبت وبكاها شعبها الذي تنازلت عن ملكها من أجل سلامته بعد أن أدارت شؤونه بحنكة القائدات المسلمات.
أما الحلم الآخر فقد كان فيلماً يروي قصة ملك من ملوك انجلترا أرسل في عام 1213م وفداً إلى الخليفة في الأندلس يطلب منه 3 أشياء:
أولها: أن تخضع انجلترا لحماية الخليفة.
ثانيها: أن تصبح انجلترا بلداً مسلماً.
ثالثها: أن تدفع انجلترا الجزية للخليفة.
ويذكر العقاد وهو يروي القصة للزميلة (مي كتبي) أن الطريف فيها هو أن الوفد عندما وصل إلى قرطبة كان منبهراً بحضارتها والأطرف أن الوفد قد تم طرده من قبل الخليفة محملاً برسالة مفادها أن الملك الذي يسلم شعبه إلى قوى أخرى ليس أهلاً لحمايته. ولاشك أن لتلك القصة اسقاطات معاصرة ذكر منها العقاد الحال الذي تبدّل وجعل الانبهار يتحوّل من انبهار الآخر بحضارتنا إلى انبهارنا بحضارته.
فتُرى كيف كان سيخرج العقاد هذا المشهد بأدواته ليختصر سطوراً تمتلئ بها كتب متكدسة على أرفف المكتبات دون أن تجد من يملك متسعاً من الوقت ليتعرف على هذه الحضارة العظيمة بأخلاقياتها الراقية.
لا شك أن زهور أحلامه اليانعة بها شيء من الأشواك, لكنه كان متأهباً لاقتلاعها ليتمكن الجميع من استنشاق عبق الزهور دون أن تدمي أشواكها أنامله وتخرجه عن سياق الأبعاد الفكرية.
فعندما سألته الزميلة (مي) عن مدى جديته في إخراج هذه القصة مع علمه المسبق بأنها ستجر عليه مشاكل لا حصر لها وتحفظات, كشفت إجابته عن توليفة النجاح التي يعتمد عليها, فهو ليس بذاك المخرج الذي يبحث عن مواضيع مثيرة وصاخبة فحسب ولكنه يريد لرسالته أن تصل, لذلك أراد أن يجند لها فريقاً من الكتاب العرب والأجانب مؤكداً أن العنصر الأجنبي يجب أن يتواجد ليعزز من مصداقية العمل وينقل رسالة قابلة للوصول والاستيعاب من الغربي للغربي لتحدث الأصداء التي ينشدها. المثير أنني في معرض بحثي عن مراجع لكلا القصتين التي ذكرهما العقاد على شبكة الإنترنت بغرض التحقق منهما لم أجد إلا روابط تعيدني إلى نفس اللقاء وإلى مقال يتيم بقلم الكاتب (سمير البرغوثي) عن قصة الملكة صبيحة, وهذا يعكس أن جيل الإنترنت والفضائيات لا يملك الكثير من المعلومات عن هذا التاريخ وأن العقاد بالفعل كان يبحث عن مواضيع جديدة ومثيرة تتوافر لها مقومات النجاح إلا أنها على ما يبدو لم تكن مقنعة بالشكل الكافي لمستثمري الخلطات السحرية سريعة الإثارة والأرباح والزوال من الذاكرة.
* رئيسة تحرير مجلة (عربيات) الإلكترونية [email protected]
المصدر: صحيفة عكاظ