في دار إيواء المطلقات والأرامل
عدت للماضي برسالة وجدتها ضمن صندوق الذكريات الذي لم يتأثر بعوامل الزمن، رأيتني وأنا اكتب الرسائل لأختي الكبيرة معبرة عن حبي لها ولكل ما تفعله لأجلي بصورة ساذجة، كما ذكرني برسائلي وأنا في العاشرة لصديقة الطفولة التي كنت ألومها برسالة على كل الأخطاء التي يتبادلها الصغار.
صندوق الأيام الماضية جعلني أسترجع تطور علاقتي بالورق التي بدأت بصفحة من دفتر مدرسي وتدرجت في انتقاء نوعية الورق، واختيار أكثر الأقلام جودة للكتابة.. كنت أظن أن القلم قادر على أن يفتح لي أبواب المعرفة لذلك حرصت على اختيار الأغلى للإجابة على أسئلة الاختبارات في المرحلة الجامعية.
وفي الوقت الذي اتجهت فيه للعمل كمحررة تأكدت أن السر ليس في نوع القلم ذهب كان أو صفيح، رصاص أو حبر بقدر ما هو في الفكرة التي يوثقها القلم، ولم تعلمني السنوات التي مضت درسا عن قيمة الورق أو نوع القلم كتلك المرة التي دخلت فيها دار إيواء المطلقات والأرامل كصحافية.. ففي ذلك اليوم تركت حقيبتي وتجردت من ساعتي وخاتمي.. لم أكن أحمل يومها مالاً.. ولا علب التمر، كما لم أجلب معي أكياس الأرز أو قطع من لحم.
وعلى باب دار الإيواء شعرت بانكسار وأنا أدخل بورقة وقلم فحسب، دار.. مستوى المعيشة فيها كان (أدنى) من الحد الأدنى لمتطلبات الحياة التي تليق بإنسان، تمسكت بأمي وأنا على حافة البكاء أرجوها أن تبعد عني القطة التي تطاردني، فسقط القناع الذي كنت أرتديه والذي يناسب زيارتي عندما أشغلت السيدات بإبعاد القطة لأتمكن من الجلوس معهن.
التفت حولي السيدات اللاتي لا يجدن القراءة والكتابة، تعلقوا بورقة وقلم راجين أن أشير إلى أسمائهن ليصل صوتهن من مكان يسوده الفقر والمرض إلى من قد يهمه أمرهن.. واستمعت إليهن وأنا أشعر باستغرابهن من عدم ترديدي لذات الأسئلة التي اعتادوا سماعها من الصحفيين فالخوف كان يسكنهن من أن يؤدي ذلك إلى طردهن من رحمة صحيفتي، فاستجبت مجاملة، وخرجت متألمة.!!
سلمت مادتي للنشر بسرعة بعد إلحاح من والدتي وكلي أمل.. بل كلي آمالهن تلك التي علقوها على ورق أبيض وقلم حبر أسود، وفي ذلك الوقت سمعت صدفة عن تعرض إحدى الفنانات للسرقة، فاتصلت بها للتأكد من الخبر تمهيدا لنشره، لأجد مادة الفنانة تنشر في الصفحة الأخيرة من الصحيفة، بينما المادة الأخرى في صفحة داخلية.
وانتظرت اتصالاً من مسئول أو شخص رحيم يرغب بتبني إحدى الحالات، فوصلني اتصال يطلب رقم هاتف الفنانة للاطمئنان على صحتها ومساعدتها ماليا لما تعرضت له من سرقه مبلغ الخمسة آلاف أو أقل ..!
وبقيت آمال المحتاجات متعلقة بقلم صحافية زارت دارهن يوما فرسمت على ملامحهن بعضا من الأمل، وتركت على الطرق التي سارت عليها قناع أسقطه الدلال، بينما علقت الصحافية فشلها على الحظ العاثر الذي كان وراء نشر الموضوع في قلب الصحيفة وليس صفحاتها الأولى أو الأخيرة !!
درس: تخلفت هذه المرة عن مركب الحظ، لكن هذا لا يعني أنه غادر بلا رجعة، يلزمني أن أعيد النظر قبل أن أكتب، وأن لا أعلق فشلي على الحظ، فهو مجموعة الأفكار التي أتداولها سرا وأكتب بها – دون أن أعلم- أقداري !!