رؤى فكرية1
الأدب و الحياة وجهان لعملة واحدة كلاهما يعكس الواقع ، كلاهما مرآة لاحتياج الإنسان و رغباته و ثوراته و آلامه.
على صعيد الحياة مثلا ... أصبح العيد يأتينا في ثوب مختلف عن ذلك الذي ألفته.. لم يعد فرحة يشاركها الجيران و الأصدقاء و أبناء الحي و ينتظره الأطفال من عام لعام .. لقد أصبح مناسبة عائلية لا غير يجتمع فيها أفراد العائلة لا غير يجتمع فيها أفراد العائلة الواحدة ربما ... و لم تعد له نفس الفرحة و الألق .
التزاور بين الناس أيضا اكتسى حلة رسمية فلم تعد الزيارات على بساطتها السابقة بل أصبحت تتطلب اعدادا مسبقا ربما يستغرق أياما أو أسابيعا و كما يقول المثل ( الكلفة من قلّ الولفة ) .
سكان البيت الواحد كذلك لم تعد تجمعهم سوى مائدة الطعام ( و ان فعلت مشكورةً)و يبقى كل فردٍ منهم قانطاً و سط جدران غرفته و قد توفرت فيها كافة الاحتياجات فلا يحتاج الى الخروج منها الاّ نادراً ...
كذلك هو الحال الأدب ... لم يعد الشعور القومي أو الاحساس بالأمة الواحدة و الوطن هو الوقود الذي يشعل قريحة الأدباء ... لقد أصبح الأديب في بحثٍ مستمرٍ عن الذات يعيش في فردية مطلقة يحركه شعوره بنفسه لا بالآخرين..
لنأخذ الرواية على سبيل المثال .. انتهى زمن روايات نجيب محفوظ و يوسف السباعي و التي تصور لنا شخصيات نمطية مثالية مثل الأب المثال أو الأم المثال أو حتى تروي لنا قصة حبٍ رومانسية .. لقد ولىّ زمن البطولات ... أصبح بطل الرواية اليوم شخصاً عادياً كيف لا و حياة المدينة لا مجال فيها للبطولات... لم تعد الرواية تكتب من أجل تحقيق مبدأ أو تحصيل درس أخلاقي و لم تعد تكتب لمن يستطيع القراءة فقط.. لقد أصبحت تتطلب عمقاً فكرياً و ثقافياً ... لقد بات كلُُ من الكاتب و القارئ بل وحتى شخصيات الرواية تائهين وسط دوامة فحواها البحث عن الذات تتعدد فيها أصوات الرواه و تتباين الصور التي لا يربطها رابط لتعبر عن كيان مضطرم يستخدم كلاً من الأسطورة حيناً و الرمز حيناً آخر ليوصل الفكرة بشكلٍ أو بآخر.. أصبح النص لا يحكمه زمان و لا مكان يتمتع بحريةٍ في الحركة و يعكس ذاتاً متفردةً تبحث عن ذاتها و لا يعنيها الآخر.
كذلك هو حال الشعر , لم يعد شعر مناسبات و لا شعراً قومياً و طنياً لقد تبرأ من ذلك كله بل و حتى من مقومات الشعر العمودية يجعلنا الشاعر ندور في فلك قد لا ندرك من كنهه سوى أنه غور في أعماق نفسٍ انسانية أو رحلة تخيلية بعيداً عن واقع مؤلم .. و حين يزداد التوتر و تُضّيُقُ الحياة في المدينة الخناق على أبنائها تكون النتيجة موجاتٍ فكريةٍ عارمة أو شعلات متشظية من مقيدة النثر ان صحت تسميتها أو من الأدب النسائي الثائر الذي اجتاح الغرب في فترةٍ ما و ما يزال و قد باتت أثاره واضحة جليةً في أدبنا اليوم..
يستوقفنا سؤال... هل هو نمط الحياة الجديد وسط المدينة و الصخب و الزحام هو المسؤول عن مثل هذه التغيرات؟ أم هي طفرة النفط التي جعلت كل مستحيلٍ ممكناً ففقدت الأشياء قيمتها الجمالية؟ أم لعلها الصلة الوثيقة بدولٍ مات فيها الدفء و احتضرت روح الجماعة حتى بات العيش غير ممكن الا داخل اطار الأنا و الأنا فقط ؟ أم لعلها دورة الحياة المتجددة التي تجيء بما هو حديثُُ كل حين من باب الحداثة ! حتى تستمر و تتكون و لا يعلوها الملل ..
هكذا هي الحياة و هكذا هو الأدب متجددان أبداً .
بقلم أ. دلال بخش