في جدة.. جريمة لايجب أن تسقط بالتقادم
قدر الله وماشاء فعل أن تفيض جدة دموعاً على تخطيطها وتتقيأ فسادها ومفسديها في عيدها... فاضت وأخرجت مافي جوفها من قهر وحيرة وتساؤلات فكان المخاض أليماً والعزاء أنها ربما قد تكون أخيراً اقتربت من طوق النجاة الذي يحمله مليكها والأمل الذي يمثله أميرها.
أمر ملكي بصرف التعويضات للمتضررين كان كفيلاً بإحراج التصريحات المخجلة لمسؤولين تخلوا عن مسؤولياتهم المتراكمة تجاه الكارثة، ولجنة تحقيق وتقصي حقائق بصلاحيات مفتوحة للمسائلة كفيلة بأن تفتح ملفات قد تكون الأكبر والأغرب من نوعها في العالم للكشف عن جريمة تعطل مشروع الصرف الصحي وتصريف المياه، وهي الجريمة التي أتمنى أن لاتسقط بالتقادم حتى يدرك كل من تورط فيها أن الطيور قد تطير بالأرزاق المختلسة في الظلام بعض الوقت قبل أن تقبضها يد العدالة في وطن لايتهاون في حقوقه وأمام مواطن لن يتسامح مع من أساء لوطنه قبل أن يصيبه بالضرر في أهله وماله.
لاشك أن لدى أهل جدة إيمان عميق بالقضاء والقدر، ولكن بين (الكوارث الطبيعية) و(الكوارث الصناعية) مساحة من (القرف) وبؤر من (الفساد) وحلقات من سوء التنسيق والتخطيط عمداً أو جهلاً بإعتقادي لم يكن للمواطن العادي أن يكتشفها لولا الله ثم التقنية الحديثة والإعلام الإلكتروني والإجتماعي الذي كشف فصول المأساة الأخيرة وأخرج رواية البنية التحتية لمدينة جدة من أدراج المسؤولين والخبراء وحتى الأهالي إلى دور النشر الإلكترونية المرئية وعلى رأسها موقع "اليوتيوب" الذي أتمنى من المسؤولين النظر إلى ما ينشر فيه لأنه لو صح فيبدو أن مدينة جدة بحاجة إلى تفريغها من سكانها لإعادة تخطيطها وتأسيسها بشكل صحيح، فالأمر يتجاوز البناء العشوائي الغير مرخص إلى مخططات سكنية مرخصة تقع في مرمى السيل، وجامعة تحمل اسم المؤسس –يرحمه الله- يفترض أن تكون وادياً لتجمع السيول، وامتدادات لبحيرة المسك في الشمال، وردم عشوائي للبحر للتوسع في البناء دون تخطيط أو خطط بديلة لإحتواء الكوارث الطبيعية، وجهات يعمل كل منها في وادٍ ليغرق الواد الذي تعمل فيه الجهة الأخرى.
إرث كبير خلفته ثلاث عقود ماضية للإدارة الحالية التي استبشر بأن أميرها قد بدأ إمارته بوعد القضاء على الفساد وبملف القضاء على العشوائيات، وبالرغم من حجم النازلة التي حلت بجدة غير أن البلاء يحمل معه دائماً الدواء والبشرى بأن ما أصابنا سيعجل تحقيق الوعد ويضع سيل الإصلاح على الطريق الصحيح ليجرف أخطاء الماضي ويجبر كسر جدة وحفرها ويزرع لقلبها شرايين جديدة.
وإن كان الألم يسكننا مما حصل في الماضي، والتفاؤل يملؤنا بالغد، فثمة أخطاء حصلت في الحاضر لا يمكن تجاوزها أو تبريرها، أهمها تحذير الرئاسة العامة للأرصاد وحماية البيئة قبل الكارثة والذي يبدو أنه كان بصوت منخفض للغاية فلم يسمعه أحد وبالتالي قد نحتاج إلى تزويدهم بـ(مكبرات صوت)، أو أننا والجهات المعنية الأخرى بحاجة إلى (سماعات) حتى نستعد لحالة طواريء قبل أن نسمع صفارات الإنذار من صرخات الغرقى والمكلومين، كما أن تصحيح المسار والبناء الجديد لابد وأن ينظر إلى فاجعة كشفها طلاب (كاوست) الجامعة التي احتفل الوطن بافتتاحها هذا العام وكتب طلابها في المواقع الأجنبية عن المياه التي تسربت إلى مبانيهم والأسقف التي سقطت في السكن الداخلي مما جعل الإدارة تنقل الطالبات إلى جدة وتحجز الطلاب في مبانٍ آمنة، وأمنية جديدة بأن لاتتكرر مأساة جامعة الملك عبدالعزيز بجدة التي غرقت مبانيها في مائها، وأن لايكون هذا قدر كل مشاريع جدة وجاراتها.
رانية سليمان سلامة
[email protected]