المطبوعات بين سقف النجاح المنخفض والفضاء الواسع
لازال الوقت مبكراً لمقارنة التحديات التي تواجهها المطبوعات الغربية بالتي تواجهها مطبوعاتنا في العالم العربي.. لكن لا شك أن فارق التوقيت لا يعتبر في صالحنا إلا إذا أدت مراقبة معاناة الآخرين إلى الاستفادة من تجاربهم ومحاولة استشفاف المستقبل الذي ينتظر المحتوى الورقي.
لفت انتباهي قبل أيام إشارة في صحيفة (الشرق الأوسط) إلى كتاب بعنوان The Vanishing Newspaper للبروفيسور (فيليب ماير) فاتجهت إلى صديقي المفضل (جوجل) للبحث, ولم يخب ظني بصديقي حيث حصلت على 759 نتيجة تتضمن ملخص الكتاب وقراءات مختلفة لمحتواه والأهم محاضرات وندوات حية منقولة بالصوت والصورة عبر الانترنت شارك فيها عدد من رموز الإعلام على مستوى العالم في محاولة جادة لإنقاذ الصحافة المطبوعة من الانقراض في عصر المعلومات... واستعرضت إحدى الندوات التي أقيمت الشهر الماضي إحصائيات مفزعة تؤكد بأن نسبة القراءة للمطبوعات تهبط سنوياً في الولايات المتحدة الأمريكية مع توقعات بأنه لو استمرت نسب الهبوط بهذا الشكل فقط دون زيادة أو نقصان سيشهد عام 2040م إغلاق آخر صحيفة ورقية أمريكية. وقد اعتبر المتحدثون أن الإنترنت والفضائيات ما هما إلا نقطة في بحر من التقنيات الإعلامية الحديثة التي سنتعرف عليها في المستقبل القريب لتزيد من حجم المخاطر المحدقة بالمطبوعات ما لم تسعَ إلى تغيير وتحديث بعض مفاهيمها التي سادت فيما مضى إلى أن بادت اليوم... ومنها التخلي عن الاعتقاد بأن منتج الصحيفة المطبوعة هو الأخبار والمعلومات واستبداله بمنتج ومفهوم (التأثير) الذي ينقسم إلى قسمين أولهما التأثير الاجتماعي وثانيهما التأثير الإعلاني على قرار الشراء.. ووفقاً لتفسير معهد دراسات الإعلام الأمريكي, فمفهوم التأثير المقصود هو أن تنجح المطبوعة في إيصال محتوى ذي قيمة عالية وتحليل دقيق مع مراعاة سهولة استيعاب القارئ له دون غموض ليترك بداخله وقعاً يشغله ويدفعه إلى التعبير عما قرأه في حواره مع الآخرين ضمن نطاق الأسرة أو الأصدقاء أو العمل... على اعتبار أن القارئ يستخدم محتوى الصحيفة الناجحة كلغة يتواصل بها مع الآخرين... ويبرر الباحثون توصيتهم للصحف بالانصراف إلى التركيز على دور التأثير لوجود مقومات تفتقدها وسائل الإعلام الأخرى مثل الفضائيات والإنترنت ومن أهمها المصداقية وحرفية الطرح ورزانته.
وتستعرض الندوة الأخطاء التي وقعت فيها الصحف الأمريكية في حرب البقاء معتبرة أن من أخطرها الإفراط بالثقة في بداية عهدها بالمنافسين الجدد على اعتبار أنها كانت تحقق أرباحاً طائلة لم تلبث أن تنخفض بشكل كبير حتى فقدت 7,5 بلايين دولار من عائدات الإعلان عندما بدأ النزيف السريع والمفاجئ يداهمها منذ عام 2000م إلى اليوم مخالفاً جميع القراءات المستقبلية التي استندت عليها, كما هبطت نسبة قراءة البالغين للصحف اليومية من 80% في السبعينات الميلادية إلى 54% هذا العام...
وصنفت الندوة كذلك نظرية (إذا لم تستطع منافستهم ابتلعهم) بأنها السقطة الثانية التي جعلت دور النشر العريقة تتجه لشراء المواقع الإلكترونية الشهيرة بهدف وقف مدها واستقطاب جمهورها ففعلت ثم فشلت في إدارة المحتوى الإلكتروني وأهملته أو اكتفت بتسجيل حضورها على شبكة الإنترنت بنفس محتواها المطبوع الذي مجدداً لم يجذب الشريحة التي هجرته على الورق.
لايبدو لي أن المساحة تتسع لتسجيل كل ما ورد في تلك الندوة المثيرة من أخطاء وقعت فيها المطبوعات الأمريكية إلا أن خلاصة التوصيات كانت بضرورة ابتكار مفاهيم وأساليب صحفية حديثة لن تتحقق دون مرونة في التفكير وجسارة للإقدام على خطوات غير مسبوقة أو مألوفة تسهم بإنعاش المطبوعات وتعيد إليها حيويتها وقدرتها على استعادة وتنمية جمهورها.
بينما كنت أتابع الندوة تذكرت مشهد أرفف مكتباتنا العربية حيث نكاد نغرق في طوفان من المطبوعات التي تتزايد في كل يوم وتتشابه أغلفتها ومحتوياتها وحتى أسمائها مع إصرار على الاعتماد على مقاييس نجاح محدودة والوقوف عند سقف تنافس منخفض واعتباره أقصى ما يمكن الوصول إليه, بالرغم من أن الواقع الذي نعيشه يؤكد أن هذا السقف قد حطمته وسائل إعلام أخرى بمعول الفكرة الجديدة والابتكار والتجديد لتحلق في فضاء أوسع تنقل الآخرين إليه بدلاً من أن تختنق معهم تحت سقف لم يعد بوسعه استيعاب المزيد من التجارب المستهلكة... وأظل عند قناعتي بضرورة إيجاد صيغة تكاملية بين وسائل الإعلام التقليدية والحديثة لتكفل الاستمرارية والتطور لكل منها, ولا أظن أن من اخترع الأدوات سيعجز عن إيجاد تلك الصيغة.
* رئيسة تحرير مجلة (عربيات) الإلكترونية
[email protected]