لسنا نبايع فحسب
حظيت سلاسة انتقال ولاية الأمر من فقيدنا وفقيد العالم بأسره خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز طيب الله ثراه إلى خلفه ورفيق درب انجازاته مليكنا عبدالله بن عبدالعزيز حفظه الله، بأكبر قدر من التعليقات الإعلامية والاهتمام الدولي... ويحق للعالم أن يبدي تعجبه وإعجابه معاً، بينما يتوجب علينا أن نؤكد واقعاً نعيشه يجعل هذا الأمر غير مستغرب علينا.
فهو يتجاوز حقيقة أننا الدولة التي لم تشهد خلال عقود من الزمان إلا أمناً وأماناً فلم نمر بتجارب الصراعات الدموية على كراسي السلطة التي تعرف الشعوب أنها أليمة وإن حققت لقادتها المكاسب السياسية. ولم نعش لحظات فراغ سياسي يغلفه القلق وتتسلل منه الاضطرابات متشحة برداء الفوضى, فقد عرفنا الاستقرار ولم نكن لنقبل بأن نكون الجمهور لمسرحية سياسية أو المشجع لمباراة انتخابية وهمية بعد أن أدركنا أن الستار عندما ينسدل والصافرة عندما تنطلق تكشف حقيقة أن الأبطال والفائزين ليس بوسعهم سوى تطبيق سياسة مرسومة مسبقاً لم تتغير قبلهم ولن تتغير بعدهم.. لقد أدركنا أن بوش هو ابن أبيه وأخ كلينتون وشقيق ريجان, وإن لم تربطهم جميعاً علاقة نسب حقيقي، فقد ربطتهم سياسة متوارثة لا يمكن الحياد عنها مهما تغيرت الأسماء والأحزاب.
وليس من طبيعة مجتمعنا ولا نظامنا التغييرات الدراماتيكية، بعد أن كنا شهوداً على دول شقيقة رقصت في أعقاب الانقلابات مُعللة نفسها بأمل الاستقرار والتغيير الإيجابي فجنت الحسرة ثم خاضت معاناتها مع المغامرات السياسية التي أفقدتها قوتها الاقتصادية ونهضتها العلمية وكرامتها الإنسانية، وقد كان لنا في العراق وفي غيره عبرة.
ويفوق تفسير لغز السلاسة أننا قد منحنا الثقة لأهلها فحسب بعد أن حظينا بالوحدة التي حولت كل تلك المساحة الشاسعة من أرض الجزيرة من دويلات صغيرة متفرقة ومتناحرة وقابلة للابتلاع والهضم السريع في أمعاء المطامع الاستعمارية.. كما تتجاوز المسألة أننا قد اجتمع لنا في قالب واحد فضل الحرمين الشريفين, مع الثروات النفطية، والموقع الاستراتيجي حتى يشكل كل ذلك قوة فريدة ومكانة كبيرة تفرض ثقلها واحترامها في العصر الحديث على العالم الإسلامي الذي تهفو أفئدته إلى المقدسات، والعالم العربي الذي تعد المملكة فيه أحد أهم مراكز صنع القرار، والمجتمع الدولي الذي نعتبر محط أنظاره كأكبر مصدر للنفط... إنها عناصر قوة اجتمعت وتكاملت وواقع يقر به الجميع، إلا أننا نعود وننظر لتلك السلاسة التي أدهشت العالم في انتقال السلطة من زاوية أخرى تكشف لنا أن وراءها حكمة وإرادة سياسية تحميها مشيئة إلهية.
فدولتنا التي امتازت عن بقية دول العالم بكونها تضم الحرمين الشريفين بيت الله ومسجد رسوله عليه الصلاة والسلام ندرك بما لا يدع مجالاً للشك أو التشكيك أن الله بحكمته عز وجل سخّر لها على مر التاريخ حكاماً هم خير من يحكمها، فبقدرته قامت دول وسقطت أخرى ليخلفها من هم خير منها ومن يرتضي لهم القيام على خدمة بيته ورعاية مسجد رسوله عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة والتسليم... ولهذا نختلف عن كل بقاع الأرض ولهذا نبايع بأكف القناعة.
ولهذا كذلك نرثي فقيداً عظيماً أجزم بأنني وكل من تابع الاهتمام الدولي بمصابنا قد شعرنا بمكانة وحجم هذا الوطن على خارطة العالم الذي أصبح يدين لنا من شرقه إلى غربه بالامتنان... فبالرغم من أننا كنا نعيش كل تلك المنجزات التي تحققت في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز طيب الله ثراه, إلا أن لرؤيتها بعين الآخر وقع مختلف في نفوسنا... فمن دعاء تلهج به ألسنة المسلمين الذين شهدوا على أكبر توسعة احتضنتهم في تاريخ الحرمين الشريفين منذ 14 قرناً، ومن قلوب حملت قرآنا يطبعه ويعمل على ترجمته مجمع الملك فهد للمصحف الشريف الذي يعد من أكبر المراكز الطباعية في العالم.. إلى شعوب عربية شقيقة حمل الراحل همومها على عاتقه حتى وقعت على أراضينا نهاية معاناتها مع الحروب والصراعات كما وقعت لبنان اتفاقية الطائف عندما وضع رحمه الله أطرافها أمام خيار واحد لا ثاني له وهو (عدم القبول بالفشل) وواصل مساعيه إلى أن تكللت بالنجاح مُسجلاً موقفاً إنسانياً آخر كشفه الرئيس الراحل الحريري في أحد لقاءاته التي أعادت قناة (العربية) بثها إذ أكد أن فقيدنا قد ألغى رحلة علاجية هامة ينشد بها استعادة صحته مرجئاً ذلك إلى أن يستعيد لبنان استقراره... ومنها إلى جارتنا الكويت التي استضاف رحمه الله شعبها على أرضه فكفاهم شر الاحتلال وعلّمنا أنه هكذا تحفظ حقوق الجيرة... ويطول مشوار السرد لقصة خالدة ستظل تحكيها شعوب مصر وفلسطين المحتلة ودول الخليج والعالم العربي والإسلامي والغربي.
فقد كنا شاهدين على عصر النهضة التعليمية السعودية إلا أننا بعد رحيله تسنى لنا أن نقرأ كذلك في عيون الآخر حجم إسهاماته العلمية التي تجلت بنشر العلم وافتتاح الأكاديميات السعودية للجاليات العربية والمسلمة مخففاً عن أبنائها وطأة الاغتراب... وامتد اهتمامه بالتعليم إلى إنشاء كراسي الدراسات الإسلامية في أعرق الجامعات الغربية فكان منها كرسي الأبحاث والدراسات الإسلامية بجامعة هارفرد ولندن وغيرهما لندرك بعد الاصغاء إلى أساتذة تلك الجامعات أهمية تلك الإسهامات ومردودها على العلم وطلابه.
لقد كانت انجازاته طيب الله ثراه على الصعيد المحلي والعربي والعالمي (كلمة السر) التي فتحت لنا أبواب التقدير، و(جواز السفر) الذي كنا نحمله دون أن ندري في حلنا وترحالنا لنحظى باحترام شعوب العالم... وقد أدرك أعداؤنا هذا السر فكان هدف الإرهاب الأول أن يسعى إلى تشويه صفحات جواز سفرنا ليسلبنا تلك السمة ويضرب بيننا وبين الآخرين الحواجز. ولكننا نؤمن أن كل الضربات العارضة لن تنجح في تحقيق أهدافها -بإذن الله-... فنحن اليوم نُبايع خير خلف لخير سلف ونعاهد مليكنا عبدالله بن عبدالعزيز على عزة ستدوم ورؤوس مرفوعة تستمد شموخها من انجازات سجلها التاريخ على صفحات لم تطو بعد ومستقبل نرى آفاقه بوضوح كلما توقفنا أمام الخطوات التطويرية والإصلاحية الرائدة التي يخطو بها معنا مليكنا حفظه الله نحو عصر نهضة جديد سمته الشفافية وأدواته حضارية مستندة إلى ثوابت تكفل له الرسوخ والامتداد.
نجدد العهد ولسنا نبايع فحسب، بل إننا أصبحنا ندرك حقاً لماذا نبايع وعلى ماذا نراهن.
* رئيسة تحرير مجلة (عربيات) الإلكترونية
[email protected]
المصدر: صحيفة عكاظ