قراءة لأعمال الفنان التشكيلي أيمن يسري
تنطلق أعمال (أيمن يسري) التشكيلية من المنطقة التي يعجز فيها التحديد النهائي لها، فهي أعمال تشبه إلى حد كبير النصوص المفتوحة على كثير من الأفكار والثقافات... ولهذا تحاول هذه الدراسة أن تنظر إلى العمل التشكيلي باعتباره نصاُ أدبياً لا تكاد أن تنفصل عوالمه الداخلية عن التراكم الثقافي والحضاري والعقائدي التي استبطنها الفنان في أعماله بطريقة لاشعورية، كما أن هذه النصوص تحتمل العديد من القراءات والتأويلات النقدية التي من شأنها أن تبرز الكثير ليبقى الكثير.
فليس وجود البياض مثلاً في بعض لوحاته ووجود المركزية الكونية و جدلية الظاهر والباطن واستشراف المستقبل وحاسة اللمس وكذلك السردية إلا دلالة على ما تكتنزه بعض أعماله التشكيلية من رؤية مختلفة عن غيره من الفنانيين ألا وهي الرؤية الصوفية التي جعلته ينطلق من مفاهيم الوجود الروحاني للكون والذات التي نستطيع أن ننظر إليها عند بعض الصوفيين العرب أمثال ابن عربي والحلاج والنفري وابن الفارض والسهروردي وغيرهم ، لكن ذلك وفق تصورات دلالية معينة.
فمن حد الحلول مثلاً إلى حد التجلي وصولاً إلى حد المكاشفة تسير الملامح السرية لأعماله التشكيلية.
وفي اللوحة تكمن آية الخلق, فهي مزج سري تبدأ من النطفة إلى العلقة إلى اكتساء البياض لوناً, ظلمات ثلاث, لتصبح صدمة بصرية في العمق, تسيل بدم البداية.
لذلك نستطيع أن ننظر إلى أعماله من خلال عدة نقاط أهمها:
- فلسفة البياض.
- مركزية الكون
- جدلية الظاهر والباطن
- حاسة اللمس
- استشراف الرؤية
لقد استطاع (أيمن يسري) أن يوجد في البياض تضادية الولادة والموت, وأن يجمع بينهما بطريقة يستحيل فيها الجمع:
الكفن بياض الموت.
الكوفل بياض الولادة.
عند الولادة يقابلنا بياض القماش (الكوفل) كإحرام تعبدي نحو الحياة، ليطغى الفرح على مراسم الولادة، وحينما يأتي الموت، تحضر طقوس الحزن ويأتي القماش (الكفن) كرحيل نهائي من الحياة الدنيا إلى عالم التراب، حيث أبدية الآخرة، وهذه الطقوس جاءت متضادة في الظاهر بينما القماش ولونه الواحد هو الذي لم يختلف.
وهذا الارتحال المصيري للحياة تجسده مفردات التوظيف بعد تأمل في الارتحال الحروفي... حيث تأتي اللغة السحرية على مستوى اللفظة في كونها بياضاً دالاً على الحقيقة المصيرية الذي يتعرض لها الإنسان, فليست البداية بياض (الكفل) إلا نهاية بالبياض (الكفن) .
وليس ارتحال حرف (اللام) إلى حرف (النون) إلا دلالة على الارتحال الصرفي الذي حصل للكلمة الواحدة في كونه ارتحالاً مصيرياً لتضاد المعنى الذي ألغاه الفنان، ومن البياض يرتحل اللون إلى داخله, يغيب, يختفي, يندمج بالذات, بالأشياء, يندمج بما هو موجود ولا موجود.
فبالبياض نتحرك, نغوص, نتوقف....وبالبياض نسكن الآخر, ونعرف ذواتنا.... وعبر هذا اللون الوحيد نلج الكهوف بأنوار الشكل الأخير نطارد أحلامنا, طفولتنا, ذات العوالم الغائرة في زمن الذوبان.
يرمز اللون الأبيض غالباً إلى عالم ملئ بالصفاء والنقاء، بل ويرمز إلى التطهير.... وهذا الصفاء والتطهير هي إحدى الدلالات الأساسية لدى الصوفية التي يُعتقَد أنها أخذت مسماها من الصفاء، ومن ارتداء الصوف، ذلك القماش الذي اعتمد عليه الفنان أيمن يسري كنوع ثبوتي على وجود هذه النزعة في أعماله.
فقط في الفن يغدو الأحمر أبيضاً, والأزرق أبيضاً, والأخضر أبيضاً, والأسود عبر ذلك ناصع البياض, رموز تتداخل في ملامحها الذات والكون والأنوار .
أما مركزية الكون فنستطيع أن ننظر إليها في طبيعة صياغته لدائرية الشكل الذي تتجه إليه بعض أعماله من كونها بؤرة تنطلق منها العين، فمن المنطقة (الوسط) لأي عمل تشكيلي تجد البداية.... رغم أنه ـ الفنان ـ لا يعتمد دائماً على تلك الفكرة، بل ولم تشغله أثناء الأداء الفني، لكنها جاءت عبر نسيج أساسي للمساحة في كونها أعطت مركزاً للأشكال المتجذرة حول المنتصف.
ومركزية العمل التشكيلي ليست هي بالضرورة مركزية الكون، لأنها ليست غاية فلسفية بقدر ما هي شكلاً ظاهرياً للرؤية البصرية.... أما مركزية الكون فتصب دلالتها في كونها مكمن السر، بل وموطن النشوء (الخلق).
فمن الداخل، تبدأ الألوان بالحركة، حركة نحو الاتجاهات الفيزيائية والواقعية التي حددها الإنسان بصورة علمية، لكن انحصارها في المساحة هي التي أعطتها نوعاً من الانغلاق... لهذا لابد للفكرة أن تعود إلى الوراء كثيراً حيث المركز الذي منه بدأت.
ومن جهة أخرى ترمز مركزية الكون في بعض أعمال أيمن يسري التشكيلية إلى دلالة (القبلة) عند المسلمين في كونها اتجاهاً واحداً تتجه إليه الأجساد والقلوب في مستوى عقائدي تتغذى منه عوالم التواصل الروحاني والشعور بوحدانية الشئ الواحد.
والعوالم الروحانية تعتبر إحدى حقائق الأفكار الصوفية التي تتجرد فيها أرواحها عن مركزيتها الجسدية من كونها أحاسيس ذائبة في رموزها.
وعلى مستوى آخر، تنفرد بعض أعماله بما نستطيع أن نطلق عليه جدلية البارز والغائر، وهي جدلية شكلانية قائمة على تضادية الظاهر والباطن، وذلك من كونها تمثل ملمحاً صوفياً لحركة الذات واستمرارية اللغة واللون في الشكل.
كما أن هذه الجدلية تؤسس تضاداً وجودياً في مصير الإنسان.فالخوف مثلاً يجعل من الشكل الاختباء وعدم البروز وذلك عبر ملمح نفسي حاد، بينما يدل الظهور على حقيقة الجهر والبوح والقدرة على المواجهة.
ومن جهة أخرى تعطي الأشكال الغائرة إلى الداخل كصورة (المبعوج) أو المصاب بمرض جسدي عضال نوعاً من التحوّل الخفي الذي يرتبط بنوعية الداء الخطير كالسرطان مثلاً .... وهذا الأمر يدل على وعي الفنان بالآخرين وتدل على مدى إحساسه بقيمة الإنسانية، وتوفير الغرض الفني لها.
وجدلية الظاهر والباطن في الشكل الفني للعمل استطاعت أن تعطينا فهماً آخر للفكرة الأصل الموجودة في الرؤية الصوفية التي تقودنا فيها لغتهم الشعرية والنثرية إلى مستويين من التعبيرات استطاع من خلالها الفنان أن يوجد تغايراً بينها على مستوى التركيب أو حتى الفكرة.
بل إن كسره للحاجز الشكلي للوحة المعتادة عبر هذا النوع من الطريقة الفنية جعلت من جدلية الظاهر والباطن عند الفنان فلسفة داخلية تعتد بمظاهر الشكل والجوهر.
وجوهر هذه الأعمال هي ما تصيغه من لغة ترتبط بذات الفنان المعبرة عن صراعها مع الأشياء وتحولات العالم.
ومما تتميز بها أعماله اعتماد بعضها على (حاسة اللمس) بحيث لا تستطيع أن تفهم العمل التشكيلي إلا إذا لمسته برؤوس أصابع يدك وحركتها يميناً ويساراً، ذهاباً وإياباً، لتعي بذلك طبيعة هذا الملمس في كونه خشناً أو ناعماً، متيناً أو خفيفاً.
وتكبر مساحة اللمس في كونه يعطي فضاءً جسدياً يجعل هذا النوع من الأعمال تكون قريبة من جسد الآخر بصورة تشكيلية لا تكتفي فقط بحاسة البصر كما هو الحال في جميع الأعمال التشكيلية بل لابد من أن تتأملها عن قرب وتلمسها بطريقة فنية.
ودلالة العمل القماشي تبدو بارز في أنها تمثل غطاء وغياباً للحقائق التي أخفاها الفنان... وفي الغطاء القماشي تكمن دلالات الحجب السماوية ومسائل الأقنعة البشرية التي قد تعود إلى التعبير عن هشاشة إنسان هذا الكون.
إن خطورة أعمال الفنان (أيمن يسري) تكمن أيضاً في كونها أعمالاً تجعل من رؤيتها للمستقبل مرحلة مرتقبة للمجئ , إنه خوف من الآتي، خوف من المجهول الذي تعجز الحقائق دائماً عن إدراكه.
وإذا كانت الرؤية الإستشرافية للمستقبل تمثل إتضاحاً في الأداء الشكلي لأعماله، من حيث طبيعتها المصاغة في التكوين الأول.... فإن تلك الرؤية تكاد تبدو غائبة بصورة معاكسة، أي أن فلسفة الحركة الاستمرارية للزمن عند الفنان هي صراع مع القادم، وهذا التصور لا نكاد أن ندركه إلا إذا أضفنا تلك الأعمال السابقة التي أنجزها الفنان في فترة ماضية عبّر فيها عن فكرة تضادية في إحساسه بالمستقبل، فمثلاً تدل أعماله التي صاغها في فكرة (علب الساردين) من كونها علباً تختص بأزمة الإنسان في المكان حيث عوالم الانغلاق.
وأزمة الزمن المستقبلي تأخذ في رؤيتها النفسية عاملاً وجودياً لبعض تلك الأعمال التي اتجهت في صياغتها إلى كونها تفسيراً عن أزمة الفنان من خلال إحساسه بالمكان، ومن خلال فلسفته للدفن وللتوابيت.
وهذه المكونات الخمس لا يمكنها أن تنفصل عن محاور أخرى جاءت محملة بأعمال فنية سابقة كأعماله التي أسماها بـ(الديدبان) والتي تبدو فيها ملامح الوجوه وإشارات العيون ودائرية الرؤوس معبأة بطقوس تختص بطبيعة الفنان وأهدافه الخفية وبخاصة من حيث ولوجها إلى أمكنة الانغلاق، وذلك من خلال استخدامه لعلب التونة والسردين (السمك) كمستوى رمزي تحكي بداخلها سردية من نوع معين.
أي أنها تخفي بداخلها حكاية تتصل بهذا السرد المكاني المتصل بقضايا الحصار والمنع والتقييد.... وهذا الحصار المكاني نستطيع أن نجده عند الصوفيين في كونه رمزاً للعزلة والزهد.
وأهم ما تتميز به صوفية أعمال أيمن يسري أنها تأخذ انعتاقاً خالصاً من كونها محصورة في هذا الاتجاه، أي قد يهيمن على معظمها الحرية النصية في التعبير التي قد تحتمل الفكر الصوفي وضده في نفس الوقت.... وهذا أمر مستحيل في الأدب لكنه في الفن موجود.
وعبر الفراغ الموجود تمتلئ أعماله بروحانية الانسجام الصوري للشكل الفني الذي لا نكاد أن نجده عند أي فنان آخر، الأمر الذي يقودنا في النهاية إلى أن هذا الفنان أيمن يسري استطاع أن يؤسس له مدرسته الخاصة.
سامي جـريدي
ناقد وفنان تشكيلي