ميلاد جديد لزواج غريب
يقال بأن قرار الزواج هو القرار الأهم في حياتنا، ذلك أن الإنسان لا يختار اسمه أو أسرته، وفي الكثير من الأحيان لا يملك حتى اختيار تخصصه الدراسي وعمله بحرية... وقد يجتهد الإنسان في اختيار شريك حياته ويخفق فيتحمل مسؤولية إخفاقه، بينما يتحمل المجتمع مسؤولية الإخفاق والفشل إذا (فخّخ) طريق الاختيار بعراقيل وشروط غير منصفة تجعل الأفراد يخسرون حقهم في اتخاذ قرار مصيري دون ضغوط.
قبل سنوات اشتعل النقاش حول زواج المسيار ثم خَفَتَ حتى ظننتُ أننا قد تجاوزناه.. ولكن المؤسف اليوم أن نجده يعود بقوة ويتم الترويج له من خلال إختراع القرن (الإنترنت) لتصبح الأداة التي نقلت العالم نقلة حضارية الى الأمام وسيلة تعيدنا بأفكار البعض الى الوراء, تارة تحت شعار محاربة العنوسة وأخرى بنداء لستر المطلقات والأرامل وأخيرة لإشباع الغرائز في أوقات الفراغ. والبشارة لهواة هذا الزواج تحملها اعلانات مثيرة للدهشة تؤكد انه قد انتهى زمن الحيرة والانتظار لتحقيق هذه الأمنية, فاليوم بوسعك من خلال هذه المواقع أن تجد طلبك في 24 ساعة بمقابل زهيد بل ولدى بعض المواقع تحصل على زوجة المسيار مجاناً فالنساء هناك بلا ثمن!!.. وتعريف هذا الزواج كما يدرجها أحد اكثر المواقع اقبالا هي حرفيا: (زواج يتميز عن الزواج العادي بأن المرأة تتنازل فيه عن حقوقها).. أنعم به زواجا تُذبح فيه الحقوق بدلا من ذبائح العرس!!.
والضحية امرأة نخدع انفسنا ونقول بأنها قد وافقت بارادتها وحريتها على ان تتخلى عن حقوقها كزوجة في محاولة لتجاهل مشكلة محاصرة المجتمع لها بنظرة ظالمة حولت ظروفاً مكتوبة ومقدرة عليها الى خطيئة اسقطت اسهمها في بورصة الزواج وأدت بها تحت ضغوط اجتماعي الى نحر حقوقها الشرعية بعقد جائر لتبحث عن (كومبارس) يلعب دور البطل في حياتها أو تلعب هي نفس الدور الوهمي المهين في حياته بعيدا عن (أم العيال) وهروبا من مواجهة المجتمع... وكذلك الضحية شيء ما يفتقده رجال المسيار يسمى (رجولة) تخلو عن أهم سماتها جبناً من إشهار الزواج وتصيدا لفريسة مرغمة على الرضوخ لتمحو وصمة ما أنزل الله بها من سلطان في كتبه السماوية كافة ولكن ابتدعها الجهل.
هل سجل هذا الشكل الكريه من الزواج مولده مجددا كمحاولة للتكيف مع مفاهيم اجتماعية خاطئة والاستسلام لها بدلا من تصحيحها؟ هو كذلك, والنتيجة خلل قد يقع في المستقبل القريب أو البعيد في نظام الأسرة الإسلامي ومقاصد الزواج التي تغيب برمتها عن ارتباط يفتقد الى نية السكن والتكاثر والاشهار حتى تتحول أسمى الروابط الانسانية في ظله الى سر يخشى اطرافه ان يطلع عليه الآخرون.. وما يغيب عنا هو أننا مع هذا الزواج نكاد ان نستنسخ صورة طبق الأصل من مأساة يعيشها الغرب في ظل علاقات تترتب عليها مفاسد وتنتهي الى أسر عرجاء من رب واحد هو هنا امرأة تحمل صفة عانس أو مطلقة أو أرملة تزوجت مسيارا وانجبت، وهناك امرأة آثمة.. وما أبشع ان يكون مصير هذه كتلك بسبب ظلم رجل يبحث عن ارتباط ويجبن عن تحمل المسؤولية امام زوجته وربما زوجاته وأبنائه ومجتمعه.
وهو كذلك ضربة في عمق تشريعات التعدد تلغي حق العدل الذي فرضه الله لزوجة أفرطت بالتنازل المقبول في أحد الشروط واجبرت على ان تتنازل عن كل ما يمكن معه ان توصف العلاقة بالزواج. فلا إشهار ولا نفقة ولا سكن ولا انجاب, وهو تفريط انتحاري في لحظة عجزت فيها حتى عن الاقتداء بأم المؤمنين السيدة سودة بنت زمعة زوج رسول الله عليه الصلاة السلام التي تنازلت عن يومها للسيدة عائشة, غير اننا اليوم نعرفها ونذكر بأنها كانت زوجة مُكرمة معززة لخير خلق الله... وكانت كذلك السيدة عائشة تعرفها كما نعرفها وليست كنساء غافلات عن زيارات أزواجهن السرية لزوجات المسيار.
من المخجل حقاً أن نرتد من مرحلة نقاش حقوق متقدمة للمرأة الى حقوق يفترض انها من المسلمات... ولكنه خطر واقع وظاهرة يجري احياؤها من جديد وتجد لها تربة خصبة للنمو في أوساط الرجال، ولابد من اقتلاعها سريعا من جذورها قبل غيرها لانها تمس أهم حقوق المرأة في المجتمع كزوجة وإنسانة وتخفي وراءها تراكمات من المفاهيم والممارسات الخاطئة التي تتطلب وقفة جادة لدراستها حتى تستقيم العلاقة بين الرجل والمرأة في أطُر تحفظ لكليهما الكرامة والاحترام والتقدير..
ولقد اثبت بعض الرجال الذين يكيلون الاحكام بمكيالين انهم أشد الناس حرصاً على درء المفاسد وتقديمها على المصالح اذا كان الامر يتعلق بقضايا تمس المرأة, كما أننا اتقاء للشبهات نتفادى أمورا كثيرة لم يرد فيها نص تحريم صريح، فلماذا انقلب القياس السائد على عقبيه في مواجهة هذه الظاهرة؟ ووسع السادة الرجال (المسيرين) على أنفسهم متجاهلين الكراهية التي أفتى بها عدد كبير من مشايخنا ومخففين من حجم المفاسد الاجتماعية التي تنتج عن هذا النوع من الزواج واختاروا إباحته لانفسهم رغماً عن أنف الكراهية والمفاسد لتنزف المرأة حقوقها بين ايديهم تحت شعارات زائفة تدعى حل مشاكل قائمة لتخلق أزمات مستقبلية لا حصر لها.. ولسنا فقط بصدد مواجهة أخطاء الرجل ولكن على الهيئات والمنظمات والجمعيات المعنية بالمرأة وحقوقها ان تعمل على نشر التوعية بين أوساط النساء ليستعدن تقديرهن لانفسهن ويدافعن عن حقوق فرضها الاسلام لهن.. ولا يسهمن جهلا في إنجاب وتنشئة رجال تغيب عنهم مقاصد الزواج الأساسية.
قد يكون بوسع هذه أو تلك ان تتنازل عن حقوق تدفع ثمنها وحدها وهذه حرية شخصية، أما في علاقة الزواج فالحقوق هي حقوق أسرة تُعتبر جزءا من نسيج المجتمع، وابناء لا يملك أحد الآباء الحق في حرمانهم من حياة كريمة.
* رئيسة تحرير مجلة (عربيات) الإلكترونية
[email protected]
المصدر: جريدة عكاظ